للثقافة وجهان·· وجه مشرق، وآخر مغبر·· بعضهم يريدها ثقافة مغبرة، كالحة، مالحة، شاحبة، لا طعم لها ولا لون·· يريدونها سرداً ومضغاً واجتراراً وتكراراً واستقراراً عند القاع، ونون النهايات المضمحلة القاحلة، الراحلة إلى حيث لا شيء، لا تطعم ولا تسمن ولا تغني من جوع·· يريدونها أن تصير بجلباب مرقع، مبقع، كأنه الموءودة تحت رمل النكوص والانتكاسة· بعضهم لا يريد نفض الغبار ولا يريد تغيير الستار، ولا يقبل بالحوار، بل إنه يعتقد أنه الدوار الذي يقوده إلى القيء والغثيان، لذلك تستفزه الكلمة المغايرة، وتدمي صدغه المفردة المجاهرة، وتصيبه في مقتل الجملة التي تلمس عقده وتراكماته وبقايا ما استقر في داخله من نوايا ورزايا·· الأمر الذي يجعله يتأبط شراً في حواره، ويمتطي خيل الشيطان في تناوله لأي قضية لا تلقى قبولاً لديه، يظن أنه امتلك زمام الحقيقة، وأنه وطئ أر ض الخبات الخالدة برفضه وانتفاضته لكل ما لا يروق له، وما لا يتلاءم مع مركباته· البعض يظن أن الماضي والحاضر والمستقبل ملك شخص لا يمكن لمسه ولا يمكن الاقتراب من نيرانه وأشجانه، فتراه متمسكاً بما يعقل ولا يعقل، متشبثاً بالحلم والوهم، متيبساً عند قارعة العراء والخواء والهراء، متجمداً عند نقطة الصفر يحطب ويشطب، ويجلب ويقلب، ويقسم ويضرب، ولا أحد سواه يحق له أن يقترب من التابوهات الراقدات على القلب واللب، كالحصى والرمل· بعضهم نرجسي إلى حد الفجاجة والفجيعة، أناني ذاتي، متورم حتى نخاع العظم واللحم والشحم والدم·· يصارع حتى آخر رمق من أجل الحفاظ على ما يعتبره مكتسبات ورثها أباً عن جد، ولا يحق لكائن من كان أن يلامس جذورها أو يفكر حتى في أصولها·· بعضهم يظن وإن بعض الظن إثم، لكنه لا يعترف إلا بظنونه وشجونه وشؤونه، فيمضي قدماً باتجاه ثقافة أشبه بالصدأ يحك رأسه وصدغه على معدنها فلا يجد غير الحثالة، لكنه يستمرئ ذلك ويعشق ذلك، ويحب تلك الرائحة، التي تتوغل في خلاياه منتفخة وتزيده تزمتاً وعجرفة واحتمالات أخرى نحو التقعر· بعضهم يعتبر الثقافة شيئاً من إثم وجريرة، ويعتقد أن الفكرة المضادة هي نار جهنم التي ستكوى بها جباه الذين يتعاطونها ويتناولونها بكل عفوية· بعضهم يعتقد أن الثقافة أمر بالمنكر فيشط ويحط ويمط ويغط في جب الوسواس الخناس، ولا يصحو إلا على جمرة تحرق كبده·· بعضهم يموء كالقطط عندما يحاور ثم يعوي ويهيم في وديان لا قرار لها غير العصبية والشوفينية والعنجهية، بعضهم يختلف ويظل مختلفاً، وإن خالفته رماك وهجاك، وأعطاك من شتائم وسباب ما أنزل الله بها من سلطان، بعضهم يريد أن يكون هو كما هو، ولا يريد أن يخلع نعليه، يرى لجة الفكر، بل يمضي عاصياً عصياً مستعصياً، لا يكسر ولا يعصر، بل هو شيء أشبه بالحجر، بحاجة إلى تفجير ديناميتي حتى تتحرك خلاياه باتجاه المستقبل·