لا تموت الأشياء، بل يفنى بعضها لينهض بعض آخر، لتستمر الحياة وترقى، فالخلايا في الجسد الواحد تنتهي فترة دوامها ودورانها واستدارتها لتولد خلايا جديدة أكثر جدية وملاء مة للحياة ومتطلباتها· وما المجتمعات البشرية إلا كائن حي يسير على شاكلة المنحنى الاعتدالي، ليبدأ مجتمعاً وينمو حتى يصل الى أوج تطوره، ثم ينحني ليسلم الراية الى مجتمع آخر·· والحضارات كذلك والثقافات أيضاً·· والتناقض في جسد الكائن الحي الواحد هو سبب بقائه وتعايشه مع الظروف الطبيعية، وكذلك التنوع والاختلاف في المجتمع الواحد· وأيضاً ما بين المجتمعات المتعددة·· فلا قطب ولا مستقيم يستطيع أن يمارس بقاءه بمفرده إلا بوجود المتوازي والمحاذي والمجاور الذي يعطيه سمة الاستمرارية والنهوض·· فالحضارات لا تسود ولا تعود بفائدة إذ ما تلاقحت مع الحضارات الأخرى، وتجاوزت معها حدود التسيد والتفرد والإغلاق·· فالفكر البشري قائم على غريزتي التضاد، الموت والحياة، القوة والضعف، الحب والكراهية، فلا حضارة ولا ثقافة تستطيع أن تشق هذا البعد المترامي الأطراف، في الزمن والجغرافيا، بمفردها إذا ما حفت بماء المكرمات الحضارية الأخرى، وإذا تجاوزت عقدة التسلط والتزمت وبسط النفوذ· في التاريخ عبر ودروس، ولكن المغالطين والفرحين يغوصون في المجهول، ويدلون بدلاء البطش ليخفوا حقائق التاريخ تحت ركام أخطاء شوفينية بائسة، ومتعجرفة·· اليوم التاريخ يعيد نفسه، ويفتح صفحة جديدة أمام القارئ الفطن، ليسرد قصة الجب الذي أراد له الاخوة منفى ونهاية للضد في أن باركت الحقيقة يد الصحيح السليم المعافى لتفصح عن خطأ تاريخي قيل عنه الحقيقة التي يجب أن تستمر·· لكن الجب أفصح عن جوفه وانكشفت التدابير الخاطئة، واستطاع التاريخ أن يثبت أحقيته في تكوين الأشياء·· أخطاء فظيعة نرتكبها حتى يسيطر علينا الشطط، ويستولي علينا اللغط، والجرائم الشنيعة نجنيها، ونحن نسير في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ، ولا نصحو إلا ونحن تحت ركام الكوارث والمآسي والخسارات الكبرى· الأمم لا تنتصر على المعضلات باستيلائها على حق الغير في الحياة، بل إن النجاح في الحياة عماده التلاقح والتسامح ووضوح الرؤية في قراءة التاريخ، والأخذ بالعبر والاستفادة من السير، وخوض معركة الحياة متسلحين بالتوائم والتلاحم، والتلازم، والنأي عن التورم والتضخم وتزاحم خلايا الأنانية في الذات الواحدة· نحن بحاجة اليوم الى فكر جديد يؤسس لمعرفة جديدة يدحض افتراءات نهاية العالم، وقبوعة في قبضة يد واحدة، نحن بحاجة الى علمانية تفكر بقيمة الفكر الآخر وأهمية الثقافة الأخرى، وضرورة العيش في وعاء واحد، مع الاختلاف والتنوع من أجل تجديد الخلايا وتشذيب النوايا وكبح جماح الرعونة والعفونة الفكرية·· نحن بحاجة الى عالم يجدد ولا يفتك، يعدد ولا ينتهك، ولا يبدد طاقة ولا يبذر قدرة·· نحن بحاجة الى عالم يختلف من أجل الحياة·· واستمرارها·