''ثقافة عيناها في قفاها'' جملة استعرت تشبيهها من أحمد أمين الذي كان قرين طه حسين في الوزن والمكانة، ولكننا نسيناه كما نسينا أشياء كثيرة، ولولا نبوغ ولديه حسين أمين وجلال أمين اللذين لا يزالان يمتعاننا بما يكتبان، كان الرجل دخل في غياهب النسيان الذي هو آفة أجيالنا وثقافتنا المعاصرة· وقد كتب الرجل هذه الجملة في معرض عيبه على ثقافتنا بأنها ثقافة مهوّسة بالماضي، وتستبدل بالتفكير في المستقبل التذكر الذي لا ينقطع بالماضي· ورأى أن الشعر وذوقنا الشعري دليل على ذلك، فنحن نعود إلى العصر الجاهلي، ونرى في شعره الأصل الذي نعود إليه في الحكم على كل شيء· وأذكر في ذلك دراسته المهمة عن ''جناية الشعر الجاهلي'' الذي ظل الشاعر العربي يرى فيه المثل الأعلى لكل شعر، وظل أهل النقد والبلاغة يتطلعون إليه بوصفه معيار الجودة الذي يقيسون به قيمة كل شعر لاحق بالقياس إلى كل شعر سابق، ولذلك ظل الشعر العربي مشدوداً إلى التقليد أكثر مما هو معني بالابتكار والتجديد، وظل الشعر الجاهلي هو مصدر القيمة الإيجابية التي أحالها النقاد إلى مواصفات ومبادئ، أطلقوا عليها ''عمود الشعر'' الذي ينبغي تقديسه وعدم الخروج عليه، فهاجموا الشعراء المحدثين في العصر العباسي، ورفضوا تجديد بشار وأبي نواس وأبي تمام لأنهم خرجوا على هذا العمود الذي ظلوا يقدسونه، على نحو أصاب الشعر العربي بالتيبس والجمود عبر تاريخه· ويبدو أن هذا الأمر لم ينطبق على الشعر فحسب، بل امتد إلى كل شيء في الثقافة العربية التي لا تزال إلى اليوم تقدّس القديم، وترى فيه الأصل الذي يقاس عليه كل شيء، وأصبح المبدأ الحاكم لتقبل أي تجديد أو تغيير هو القياس على الماضي، فإن وجدوا شبيهاً لهذا الجديد المتغير، فهو مقبول وإلا كان الرفض والإدانة، وكانت النتيجة أن أصبح التيار الغالب على الثقافة العربية هو التيارَ التقليديَّ الاتِّباعيَّ واستبدلت هذه الثقافة بتأمل المستقبل ومحاولة اكتشاف احتمالاته، فيما أصبح يسمى الدراسات المستقبلية، استعادة الماضي واسترجاع لحظاته، ومحاولة بعثها أو إحيائها، ويمكن أن نرى مصداق ذلك في أي معرض للكتاب على امتداد العالم العربي، فما أكثر الكتب التي تتعلق بالماضي، درساً وتحليلاً، شرحاً وتفسيراً!، وما أقل الكتب التي تتحدث عن المستقبل!، فالمستقبل هو العنصر الأضعف والغائب في ثقافتنا، وبقدر ما تتهوس هذه الثقافة بماضيها، في مرض الحنين إلى الماضي والمباهاة به، كأنها تهرب من تأمل مستقبلها والتفكير في احتمالاته·