انفضَّ معرض الكتاب، وانتهى موسم آخر من مواسم لقاء خير الجلساء الذي صار أعزهم نسبة إلى الصحبة النادرة·· حمل العارضون بضاعتهم إلى حيث معرض آخر، وهجعت عشرات الكتب في صناديقها عائدة لم يمسسها أحد، اكتفى أكثرنا بالنظر إليها حين كانت على الأرفف والطاولات بعيدة عن الأيدي مثل فاكهة محرمة، فالأسعار تجعل اقتناء ما تشتهي الأعين ضربا من المستحيلات، وحين كان الناشرون يعقدون صفقات التصفية للباعة الفرعيين والصغار ليعيدوا عرضها في مكتبات مدنهم لتوغل في الابتعاد ثانية وتتضاعف أسعارها، كان النهمون من القراء والكتّاب يعقدون صفقاتهم البريئة ليتشاركوا في الشراء أو ليقتسموا العناوين كي يخف ثقلها على جيوبهم المثقلة أصلا· يدهشك التدافع والزحام فتحسب أن القراءة صارت طقسا منزليا أو عادة شخصية وأن الأيدي تتداول الجديد وتبحث عن ظواهره ومظاهره التي يسجلها الكتاب ويغرينا بمحاورتها، ولكنك تصدم إذ تجد المجلدات الضخام ودورات الكتب ككل موسم تكرر البائد والسائد والمتاح من كتب الثقافة السطحية الساذجة، فيما يغترب الجديد والمبتدع والمخلوق عن فكر ورؤية، وينزوي بعيدا مهمّشا تطارده أعين النخبة وقلة من المتابعين المهمومين بالفكر والمبتلين بتعقبه ورصده· الناشرون ـ مثلنا نحن الزبائن ـ يجأرون بالشكوى ويضجون بالتذمر ويُقسمون ألا يعاودوا المشاركة والعرض كعهدهم كل عام، ولهم جداول من تلك الشكاوى التي يلقونها علينا مبررين غلاء معروضاتهم التي يخيّلون لك في إحدى درجات الخطاب الشاكي وحماسته أنها تبرع منهم لقراء هذه الأمة المتعبة! لكنهم سيعودون ثانية رغم ارتفاع إيجار مواقعهم وقلة ما يبيعون بحسب تصريحاتهم المعلنة وخسارتهم وضياع جهدهم· حالة القارئ والناشر، والمبيع والمقروء تدعونا للتذكير بأن الدول وهيئات الكتاب ودور النشر الرسمية لا تزال الأكثر رأفة بالمستهلك والأكثر إنصافا للمؤلف أيضا، وذلك يعزز دورها ويضاعف مسؤوليتها وينبه إلى ضرورة أن تعود لسابق عهودها حين كانت بؤرة الجديد وموضع كرم عرضه وتداوله· وذلك لا يكون بمجرد تراكم المنشورات وتنويع السلاسل والدوريات بل برفع أيدي الرقابات المتنوعة والمخاتلة كي يأمن المؤلفون شرورها ويثقون بأمانتها فيقتربون من قرائهم بحرية ودون استغلال ورهق في السعر يضاعف غربتهم عن محيطهم ويزيد من دواعي عزلتهم وتهميشهم، بل سيكون للناشر المبرأ من هاجس الرقابة والتحيز دور في طرد السيئ من المتداول والخطِر على العقول والمحرض على العنف والتفرقة والتواكل والانهزام ومجافاة الحياة ونبضها الحي المتجدد· مهمة لا نستطيع أن نجعلها في بلداننا حقيقة لا مجرد حلم يستدعيه موسم الكتاب، وعكاظ العناوين المكررة إلا بالمزيد من المشروعات الجريئة التي تنمو على استحياء هنا وهناك مثل مشروع (كلمة) التي تخطط وتنشط وتلاحق المستجد في الفكر دون ضجيج أو ادعاء وإن ظلت بها حاجة للانتشار والوصول إلى القراء أولا بأول وبمواعيد صدور منتظمة·