كانت الحرب الأهلية في لبنان، لم تضع أوزارها بعد، حين قررت التعرّف على العلاّمة اللغوي والباحث الشيخ عبدالله العلايلي الذي كان في أيام شبابه يسمى ''الشيخ الأحمر'' نظراً لاختياراته السياسية· قصدته عصر يوم من الأيام، في الحي الذي كان يسكن فيه من بيروت، وكان قريباً من منزلنا·· قام بنفسه وفتح لي الباب، قلت معرفاً بنفسي: أنا··· (فلان) قصدت سيدي الشيخ بسبب حب قديم له، ورغبة في التتلمذ على يديه، ولو لساعات، إنه آخر بحر من بحور اللغة العربية، لم يعتكر بعد ماؤه أو يجف· نظر الشيخ من وراء نظارتيه الطبيتين في وجهي، وقدرت أنه عرفني، قال مرحباً: يعجبني فيك تجليك، وتجلي ربك فيك· فتح لي الشيخ بذلك باب منزله وخزائن علمه، حتى وافته المنية، قال لي مشيراً إلى أجزاء فارغة من مكتبته العامرة: انظرْ إلى اللصوص الأغبياء·· لقد أفادني غباؤهم، فقد سطوا البارحة على مكتبتي وسرقوا الكتب الجديدة، تاركين لي الكتب القديمة· الساعات والأيام التي قضيتها متتلمذاً على العلاّمة الشيخ، حفرت عميقاً في كياني، كان آخر نسور اللغة وأعلاها شأناً، قال: عبقرية العربية، بالمقارنة مع لغات كثيرة أوروبية، قائمة على مبدأ الاشتقاق، إن الاشتقاق اللغوي في العربية، عمودي، في حين أن الاشتقاق اللغوي في اللغات الأوروبية، أفقي، إن الوزن أو القالب في العربية أساس التوليد، في حين أنه في اللغات الأخرى قائم على التجميع الأفقي والإلصاق· يكفي على سبيل المثال أن نعرف أن وزن ''فعالة'' بإلغاء المكسورة هو وزن المهنة أو الحرفة، حتى نصل من خلاله إلى المفردة الدالة على أية مهنة أو حرفة على امتداد الأزمنة والمتغيرات·· كالطباعة، والكتابة، والزراعة، والصناعة والتِقانة·· وغيرها· يصعب أن أحصي الفوائد اللغوية للشيخ فهو أحد فلاسفة اللغة العربية، وبها (أي باللغة) قدم تفسيراً مبتكراً ومدهشاً للمذهب الفلسفي لأبي العلاء المعري من خلال كتابه ''المعري ذلك المجهول''·· وكان الشيخ حين يتكلم في اللغة والسياسة والمجتمع، يتدفق تدفقاً لا تلجلج فيه ولا تردد، ولم أسمع صوته يرتجف، إلا حين فاتحته في الشعر والشعراء· لقد ارتجف صوته آنذاك متهيباً·· واستطعت أن أعرف ما لم يكن معروفاً عنه، وهو أنه أيضاً كان شاعراً·· وبحوزتي منه قصيدة لم تنشر حتى اليوم·