لماذا يشغلنا الحنين إلى الماضي، ونظل نتطلع إليه، ونحن إلى أزمنته التي تظل جميلة في رؤوسنا، ونراه أفضل من الحاضر دائماً، هل الأمر يرجع إلى قسوة الزمن الحاضر الذي يصدمنا كل يوم بأحداثه وكوارثه ومصائبه، فيدفعنا إلى العودة إلى الماضي، والحنين إليه، ولا نكف عن محاولة تجميل هذا الماضي والمبالغة في تخيله بوصفه الجنة المفقودة التي نحلم بالرجوع إليها؟ كنت أضحك على أمي وأبي، رحمهما الله، عندما كان لا يعجبهما الكثير مما يريانه في زمني الواعد، فيتهمان ذوقي لأني لا أقدر مثلهما أغاني عبدالوهاب وأم كلثوم القديمة، وأفضل عليهما المغنيين ضعاف الصوت من أمثال: عبدالحليم حافظ ومحرم فؤاد ونجاة الصغيرة التي لولا الميكروفونات الحديثة ما وصل صوتها إلى أسماعنا· مرت الأيام، ومضى بي قطار العمر، وصرت مثلهما، أسخر من ابني على هذه الأصوات الجديدة التي يستمع إليها، والتي تتشابه كلها وتتحول ألحانها في أذني إلى صخب صوتي، وابني يقول باسماً: يا أبي لكل زمن إيقاعاته، فلا أتمالك نفسي من الغضب، وأمضي في المقارنة بين زمني وزمن ابني، وأتطلع إلى حفيدتي وهي تضحك من انفعالي، فلا أملك سوى أن أقول: وغداً سوف نرى في زمنك الأعاجيب، وأترنم بيني ونفسي بقول أبي تمام: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل وأسأل نفسي: لماذا نتعلق جميعاً بالماضي؟ وننسى أن للحاضر مباهجه، وننسى وعود المستقبل الذي يمكن أن يأتي بالأحلام الوضاءة على الكفين، هل السبب هو تدهور الحاضر الذي يدفعنا إلى نقيضه، فنعود إليه كما لو كنا نعود إلى الرحم الذي جئنا منه، أم أن السبب هو خوفنا من المستقبل الذي لا نفكر فيه عادة، ونستريب في احتمالاته التي تميل إلى سوء الظن بها، وهل يرجع ذلك إلى أن تصورنا للزمن هو تصور دائري، يبدأ من نقطة بعينها، ومهما ابتعد عنها يعود إليها كأنها نقطة البدء والمعاد؟ وهل نحن ننطوي على ما يشبه ذلك من تصور الزمن بوصفه خطأ منحدراً، كلما مضينا فيه انحدرنا عن ما كنا عليه؟ ونسمع دائماً عن أغاني الزمن الجميل وروائح الزمن الجميل الذي مضى، كما لو كان كل شيء مضى أفضل من كل شيء آت، ولذلك نفكر في الماضي دائماً ونستشهد به ولا نكف عن ترديد أننا - نحن العرب - كنا أفضل الناس