المتثاقفون في مجتمعاتنا مدعون، متهافتون، مولعون بالتنظير والتأطير والتسطير، والتخدير والتمرير والتبرير· المتثاقفون في مجتمعاتنا يعرفون الغائب والحاضر من الأشياء، يحيطون بأحوال الدنيا ويسبرون أخبارها وأغوارها وأسرارها وسيولها وأمطارها وخيرها وشرها·· يفسرون ويؤولون، ويخمنون ويضمنون، هم موسوعيون، شموليون، فضوليون متمنطقون، متحذلقون، متقولبون، لا تفوتهم شاردة ولا واردة، وإلا يعلمون عن دبيبها وخبيبها· هؤلاء لديهم قدرات فائقة على الاحتيال والاختيال، والاستدلال والاستغلال والنيل من الحقائق·· فإذا قالوا إن الشمس تطلع من الغرب فلابد أن نصدق ونصفق حتى تعرق أكفنا وتدمع عيوننا وتحمر وجوهنا·· وإلا وصفنا بالجهل وقلة العقل وضعف البصر والبصيرة· المتثاقفون عولميون في مجلس، أصوليون في آخر، مهادنون في موقع، مشاكسون في آخر، طيبون في مكان، خبثاء في مكان آخر· وكما يقول مثلنا الدارج وجوههم مثل السعف ·· متصدون لكل القضايا، مجاهدون، مجابهون، أفذاذ جهابذة صناديد أشداء لا تكسر شوكتهم قارعة، ولا تخذلهم منازلة، يخوضون معارك اللغو واللهو والسهو في الغث والرث، فلا تصدهم رادعة ولا تمنعهم مانعة، وبتلويحة من سبابة يحللون ويحلون ويدللون ويكللون القضايا بأزاهير ما أبدعته أذهانهم من مخترعات وجرعات سحرية لا مثيل لها، ولا دليل على ما يشبهها، هي عصارة عقول منّ عليها الله بالتفرد والتميز على عباد الله وخلقه المساكين· المتثاقفون صنف من البشر، هم لا من نار ولا من حجر، هم شيء من أشكال الغرر والشرر، هم أحباء، لصقاء بالعجيج والضجيج وفحيح الأفاعي ونقيق الضفادع·· هم محبون عاشقون مدنفون مغرومون بالظهور والعبور على أكتاف الكذب والحدب والندب وتجاذب السالب والموجب· المتثاقفون حيلة من لا حيلة له ولا وسيلة، ولا مخيلة غير تجاوز الحقائق والدخول في معمعة اللغط والشطط والقول الممغنط والبوح المحنط· المتثاقفون فئة ضلت الطريق إلى الفهم فاختارت الوهم، ورديء الكلم، فانسجمت واحتدمت شططاً وعصياناً للعقل وشؤونه وشجونه وفتونه، ورفعه وسكونه، وسارت تلهب الكون بأساليب وأكاذيب ومزاريب تكيل الحثالة وتحيد عن الأصالة، وتتطور نشئاً غريباً عجيباً مريباً كئيباً يصيب من يجالسها بالملل والعلل والشلل والكلل، فإن أراد أن يكون مقبولاً فعليه أن يتوافق ويتناسق، وإن كان لا فسيكون مغضوباً عليه إلى يوم الدين، ويوم يرث الله الأرض ومن عليها· المتثاقفون ابتلاء وداء واكتواء تتكوى به المجتمعات، وتصاب بالأذى والقذا، وأحياناً بالرمد إذا ما اشتدت الأدواء· المتثاقفون سبب صريح في هزيمة الأمم وانكسارها واندحارها وتراجعها إلى ذيل القائمة في الرقي والتطور، لأن المتثاقفين حمل كاذب وسراب جاذب·· لكنه فراغ يقود إلى فراغ