علمونا الخوف، بصناعتهم اللاءات بحجم الجهات الأربع، فالطفل منذ نعومة أظفاره يعاني من الحواجز ومفارز المنع والقمع والردع فينشأ فتختصر هذه الكوابح المنيعة في جوفه، تنمي خوفه وزحفه باتجاه الخلف والتراجع إلى الوراء ويكبر وتكبر معه مشاعر الانسحاب والنكوص إلى مراحل مبكرة من حياته، يمضي به العمر وهو لا يزال طفلاً في تصرفاته، صغيراً في تصوراته، ضعيفاً في تخيلاته لا يستطيع أن يجابه القضايا الكبرى، ولا يمكنه مواجهة الأحداث بنضج وبلوغ؛ لأنه لم يزل بعد قابعاً في المرحلة الصفر، منكفئاً نحو نفسه منطوياً حول ذاته خائفاً من المستقبل مرتجفاً واجفاً ترعشه الصدمات وتخذله المداهمات وتكسره الأحداث الجديدة·· لأن ما تعلم طرح الأسئلة ولم يفهم معنى المجادلة وليس لديه معادلة واضحة ما بين الواقع والخيال، بل هو يعيش حالة بلبلة وغربلة وزلزلة تغشيه غاشية اللاءات وتحيط به وتكبله وتسربله، بل هو يشعر أنه يعيش في زنزانة محكمة الإغلاق لا يستطيع الفكاك منها وإن حاول تنتابه حالة من الذعر والرهاب النفسي، فلا هو يستطيع أن يلجأ إلى أحد؛ لأنه فقد الثقة بالآخر، ولا هو يستطيع أن يستعين بقدراته؛ لأنها ضئيلة وهزيلة أمام أي حدث مهما صغر· فالطفولة مهمة لأنها الأساس الذي تبني عليها أركان الشخصية عند الكبر والطفولة المعذبة بالرفض والحض على الصمت لا يستطيع أن تؤسس لشخصية متصالحة على النفس، ومن لا يتصالح مع نفسه لا يستطيع التوافق مع الآخر· الشخصية المهزوزة كوتر مضروب على أرض طينية هشة، لا الوقوف باستقامة ولا يمكنها الصمود أمام أحداث وهزات، الأمر الذي يجعل من هذه الشخصية، عرضة للانحراف والانجراف والاستخفاف بالقيم والثواب فينشأ منها التطرف بمختلف أشكاله وأحواله وأهواله ومآله·· فلا يتطرف الفرد إلا إذا فقد الاتزان النفسي ولا يحيد عن الواقع إلا إذا فقد علاقته مع نفسه أولاً ثم مع الآخر·· والتربية تلعب دوراً جوهرياً ومحورياً في بناء الشخصية، ولأن ثقافتنا ثقافة تلقين وشد لجام واحتدام فإننا بحاجة لتفكيك الكثير من القوالب وحل الكثير من العقد، والتعامل مع النفس البشرية كتربة أصابها ما أصابها من تعرية وتورية بحاجة إلى معالجتها معالجة حضارية متفتحة منقحة من شوائب الدهر، ونوائب ما استعر في مجتمعاتنا ومخيلتنا نحن بحاجة إلى الاعتراف أولاً أننا نجني على أطفالنا عندما نخضعهم لمعامل كيميائية وفيزيائية نتحدث بالأرقام وننسى أن الإنسان حالة خاصة ليس كسائر الكائنات تحكمه عوامل كثيرة ولا يمكنه أن يعمل بالريموت كنترول كما يريد المتزمتون والمحنطون والواقعون ضمن قوالب صدئة، رديئة، بالية·· نحن بحاجة إلى احترام عقل الطفل وأسئلته التي قد تتجاوز حدود معرفتنا، ونحن بحاجة إلى أن نتنازل عن كبريائنا المزعوم لنصل إلى مستوى عمر أطفالنا لنحدثهم بلغتهم وصوتهم ورغباتهم وطموحاتهم·· نحن بحاجة إلى الخروج من قوقعة الصغير أصم أبكم أعمى في حضور الكبار·· نحن بحاجة إلى سيولة فكرية تحرك مياه ثقافتنا الآسنة وتدع الأنهار تتدفق بلا عواقب ولا مشاجب