بعض أطباء الأسنان، نقول بعضهم، يتعاطى مع المرضى مثلما يفعل ميكانيكي في كراج إحدى الجنسيات الآسيوية، بمطرقة حديدية واحدة يفك، ويصك، ويدك، ويحك، ويحول فم المريض إلى حفرة، تفور منها الدماء، وتتدفق الآهات، وهو يقف جاهماً جاثماً، واجماً، محتدماً بعنف، وشراسة الوحوش الضارية، هذا بطبيعة الحال إذا وافق وتكرّم، وتحشّم لاستقبال مريض يعاني من آلام مبرحة في أسنانه، أما إذا أراد أن يستخدم سلطته وصلاحيته، وحاجة المريض إليه، فإنه سوف يراوغ المستجدي إليه كما يراوغ الراعي دابته، ويقول في لهجة برمة: لا وقت الآن للعلاج، انتظر في التاريخ الفلاني، في الشهر الفلاني، ليذهب المريض إلى جحيم آلامه، ولتذهب كل توسلاته ومحاولاته لكسب رضى الطبيب ''المداوي'' في غياهب خطواته التي ساقته بمحض الصدفة إلى مكان نستطيع أن نطلق عليه أي اسم، ماعدا اسم ''عيادة أسنان''، فهذا الاسم لا ينطبق ولا يتفق مع واقع بعض العيادات، لأنها أصبحت مخادع للمنافع والتجارة الحرة التي لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود، ولا تحكمها نظم ولا تلزمها قوانين ولا تلجمها شروط الطب كمهنة إنسانية رفيعة عالية الشأن، وهي من أشم وأهم المهن·· عندما تدخل إلى بعض عيادات الأسنان، تشعر وكأنك تدلف محل نجارة، فصوت المنشار الحديدي يدك اللحم البشري، بصلف وعجرفة، ووجه الطبيب المغضن تلفه سحابة داكنة من الغضب، والصخب، مما يثير العجب والعتب على كائن كان يُفترض أن يكون مثالاً للحنان، والأمان، والاطمئنان، لأنه ما من شيء يحتاجه المريض قبل العلاج غير قدرة الطبيب على كسب المريض، وإشاعة الهدوء في نفسه، وإفشاء القوة النفسية على تحمل ما ستفعله المطارق والسكاكين والإبر المسننة، في الأماكن التي تتحمل غدر كل هذه الغزوات والهجمات والضربات القاصمة والحاسمة· بعض الأطباء فور أن يجلس المريض على كرسي المعالجة، يتحول إلى فريسة تنقض عليه الآلات الحديدية من كل صوب وحدب دون رأفة أو شفقة، فالمريض يرفس والطبيب يهرس، والمريض يغطس تحت آلامه، والطبيب يغرس بالمباضع، ولا يسمع المريض إلا كلمة انتظر قليلاً، تحمل·· تحمل·· والحمل يثقل، والآلام تفتك بجسده وهو في سوء، يكيل السباب واللعنات على الطبيب واليوم الذي أوقعه بين يديه، يتمنى له أن يُصاب بما أصيب به وأن يذوق طعم الآلام التي يتجرعها المريض بين يديه، وتظل اللعنات مجرد تمنيات لا يكابدها إلا من غضب عليه أحد أسنانه، وثار عليه ليصبح ضحية طبيب الأسنان ودمية يمزق أوصالها، ويدق مصيرها بكل صلف واستخفاف بالمشاعر الإنسانية· فعيادة الأسنان·· مواعيد مستحيلة، وعلاجات تُذهب العقل والمخيلة واستقبال بإهمال لا يتوافق مع أقدس مهنة، وأهم عمل إنساني·