في كل مرة أسافر فيها إلى لبنان لا أفوت فرصة الذهاب إلى جبيل ، المدينة الساحلية التاريخية القديمة التي تعبق برائحة الحضارة الفينيقية ، وبالآثار التي ستعبر عليها حتماً وأنت تمر عبر الجزء القديم منها حيث السوق القديم ومعبد الملك حيرام والقلعة والميناء وفندق '' بيبلوس سورمير'' المطل بوداعة على البحر المتوسط والذي يعود تاريخ بنائه لسنوات السبعينيات وتعود ملكيته لأحد التجار الأرمن في المدينة، السوق القديم مرصوف بالحجارة الجبلية ومسقوف بها أيضاً على طراز الأسقف ذات الأقواس الحجرية المهيبة ، دكاكين السوق متلاصقة وصغيرة جداً وبالكاد يمكنها استيعاب ثلاثة أشخاص مع البائع أو البائعة ، أغلب التجار في السوق لبنانيون من أصول أرمنية شباب صغار السن وشيوخ عجائز ، حين تسأل العم جورج ،أحد تجار السوق عن سعر تحفة صغيرة ملقاة على مدخل المتجر يقف متمهلاً ويفكر كثيراً قبل أن يقول لك : بـ 8000 ليرة فإذا كنت لحوحاً وأردت استعراض مواهبك الخاصة جادلته بعض الشيء لتحصل على تخفيض بـ 1000 ليرة لا أكثر !! على مدخل أحد الدكاكين جلست سيدتان تتحدثان الأرمنية بينما وقف ابن إحداهما حاملاً صوراً بالأبيض والأسود تعود لمدينة بيروت ومدن لبنانية أخرى ، كانت والدة ''جارو'' صاحب الدكان تشرح لجارتها تفاصيل الصورة بينما بدت الدموع واضحة في عينيها، وقفت أتفرج معهم ، قال الشاب : ألا تريدين أن تشتري صوراً تاريخية لبيروت ، هذه الصور تعود للعام 1937 ، لدي بعض هذه الصور كنت قد اشتريتها في زيارة سابقة للسوق ، قلت للسيدة التي كانت تشرح لجارتها بالأرمنية : ألم تري هذه الصور من قبل ، أراك حزينة جداً ؟ قالت بلهجة لبنانية صافية : أنا عشت هذه الصور ، عشت هذا التاريخ ، ولذلك أنا حزينة لهذه الدرجة ، أكملت بتلقائية : هذه الصور تبعث على الحزن فعلاً !! تبدو بيروت كما في الصور عام 1937 مدينة جميلة نظيفة ومرتبة جداً ، الشوارع واسعة ، عربات الترام تعبر في مساراتها بانتظام واضح ، الناس رجالاً ونساءً في غاية الأناقة الكل يرتدى بدلات رسمية ويعتمر القبعات على الطريقة الفرنسية، البنايات ذات عمران أجنبي الطابع ، الشرفات أنيقة ولافتات واضحة تعتلى تلك البنايات تعلن عن أسماء شركات أدوية وغيرها، وعلى أرصفة الشوارع بدت مقاهي الأرصفة بمظلاتها المخططة ما يذكرك الآن بمقاهي باريس أو بروكسل أو فيينا ، يا إلهي ما الذي حدث لهذه المدينة الجميلة ؟ كيف سرقت الحروب والمؤامرات والتحالفات والجهل والشرور والصراعات المذهبية كل هذا الجمال وهذا التحضر ؟ كيف صار أهل بيروت يضيقون بمدينتهم التي كانت ست الدنيا وعروس الشرق وسويسرا العرب ؟ كيف صاروا يهجرونها بحثاً عن سبل عيش أكثر رخاء ، هل ضاقت بيروت بأهلها أم ضيق عيشها أناس تسلطوا على السياسة داخلها وآخرون تحكموا في مصيرها من الخارج ؟ لا تضيق البلاد بأهلها لكن قاتل الله الفقر والجهل والفساد حين يحكم قبضته على أي شيء· ayya-222@hotmail.com