عندما قرأت قصيدة محمود درويش ''خطبة الهندى الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض''، تذكرت قصيدة عبدالرحمن الشرقاوي القديمة ''من أب مصري إلى الرئيس الأميركي''، وكانت القصيدة من بواكير الشعر الحر في زمنها ولا تزال تعد وثيقة إبداعية من وثائق الإبداع الشعري، في احتجاجه على إمبراطور العالم الذي انفرد بالعالم في زماننا، والذي كان رمزاً من رموز الاستعمار الجديد في زمن عبد الرحمن الشرقاوي· وكانت قصيدة الشرقاوي تجمع بين الخاص والعام، الفردي والجمعي، الوطني والإنساني في رفضها الهيمنة الاستعمارية التي أخذت الولايات المتحدة في ممارستها، خلال ما قامت به من إحلال حضورها المهيمن الصاعد محل الاستعمار القديم، في العملية التي أسماها عبد الرحمن منيف باسم ''سباق المسافات الطويلة'' في الرواية التي حملت هذا الاسم، مصورة تحول الهيمنة من دول الاستعمار القديم إلى الإمبراطور الجديد· ولقد انفرد هذا الإمبراطور الجديد بالعالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتحوله إلى حاكم العالم الأوحد، منحازاً إلى إسرائيل التي جعلها حليفته في الشرق الأوسط، بينما الفلسطيني يعاني الشقاء والحرمان والنبذ ومهانة ما يفرضه عليه إمبراطور العالم الجديد في زمن فقد ذاكرته، ومكان انقلب على أصله، وعلاقات دولية جعلت من الفلسطيني المصلوب على مأساته شبيها بالهندي الأحمر الذي غدا قناعاً يختفي من ورائه محمود درويش لينطق صوت وطنه المعذب· ويبدأ محمود من الواقع الفلسطيني الذي لم يبق فيه سوى جماجم الآباء الطيبين والخراب والموت الذي لا تقطعه سوى هدنة مع الأشباح في ليالي الشتاء العقيمة، وطن ينزف حاضره، نتيجة وصايا الإله الجديد، إله الحديد الذي يدفع الضحايا إلى معاهدة للسلام مع الميتين، في اتفاق أوسلو الذي انقاد إليه أبو عمار وحسبه خلاصاً، بينما كان هو في الحقيقة اتفاقاً بين القتيل وقاتله، كي يستمر القتيل في موته والقاتل في قتله، وطبيعي أن يصل الرفض إلى مداه الحدِّي، فتقول القصيدة: خذوا أرض أمي بالسيف، لكني لن أوقع باسمي وأعرف أني أودع آخر شمس، وألتفّ باسمي وأسقط في النهر أعرف أني أعود إلى قلب أمي