ختم أنيس الصايغ، المفكر والمؤرخ الفلسطيني اللبناني السوري العربي، حياته كما يليق بالمجاهدين من أمثاله. فقد خلّف وراءه تركة ثرية من الكتب والأبحاث عن القضية الفلسطينية، وكان ابن الثامنة والسبعين عاما، يعمل بدأب، في أواخر أيامه، على جمع مادة كتاب عن حياة صديقه السياسي الفلسطيني الراحل شفيق الحوت. وقد تعمّد عطاءه الفكري والأكاديمي بالدم، إثر محاولات اغتيال كادت أولها في العام 1972 تطيح به، بعدما أفقدته إحدى عينيه وبعض أصابعه ونسبة من سمعه. كان أنيس الصايغ حارس الذاكرة الفلسطينية والعربية بامتياز. من مبنى متواضع في آخر شارع السادات برأس بيروت، كان يقود “كتيبة” مهمتها الأساسية مقاومة الاحتلال الفكري والاجتياح الثقافي. مهمة خاضها أنيس الصايغ على جبهات الخارج والداخل معا. فالدعاوى التاريخية والنصوصية الصهيونية، ظلت إلى وقت طويل، تسيطر على معطيات وآليات الفكر الغربي وراسمي استراتيجياته وصنّاع قراره. ولم يكن المقابل العربي يزيد عن مقاربات تجمل أصل القضية وفصل الصراع في “كليشيهات” مكرورة لا تمنع ولا تردع وتعجز عن الإقناع. مع تولي أنيس الصايغ مسؤولية مركز الأبحاث الفلسطيني، عام 1966، نشأ رافد غزير للفكر العربي أولا، ولمؤسسات البحث الأجنبية ثانيا، حول أسس الصراع العربي ـ الصهيوني ومآلاته. فمسألة التوثيق المهملة عند العرب، تحولت في مركز الأبحاث إلى عمل مؤسسي ضخم، أنتج مئات العناوين في قضايا الصراع وشؤونه، ثم تطور إلى فكرة الموسوعة الفلسطينية. نجح أنيس الصايغ وزملائه على هذه الجبهة، على الرغم من الدماء التي دفعوها جميعا بتفجير المركز في واحدة من أبشع عمليات “الموساد”. لكن هذا النجاح على الجبهة الخارجية، لم يستطع أن يتلاءم مع العوامل الضاغطة على معادلة العلاقة بين المثقف والسلطة، والمفكر وصانع القرار في بعدها العربي والفلسطيني على وجه التحديد. ففي مقابلة تلفزيونية قبل أعوام يتحدث أنيس الصايغ عن ضغوط لإعاقة عمل المركز تتمثل في “خنق” ميزانيته. وهو يفسّر ذلك بأن قائد الثورة الفلسطينية الرئيس الراحل ياسر عرفات “أراد أن يكون المركز ومنشوراته وباحثوه رجال إفتاء يجيزون الأفكار والآراء والأحكام التي يريدها حسب مزاجه وفهمه للأمور”. يؤشر أنيس الصايغ بشكواه تلك إلى العلّة الكامنة في بنية المؤسسة السياسية العربية. فهي ما زالت تركن، مثلها مثل العامة من مشاهدي التلفزيون، إلى سلطة الفتوى في شؤونها وشجونها. وليس بالضرورة أن تكون الفتوى هنا دينية أو فقهية، فكل من يسوّغ للسياسي العربي قراراته و”يؤصّل” آراءه يحمل لقب مفتٍ. أما دوائر التفكير التي يسمونها في الغرب think tank، وتسبق صياغة القرار ثم تتقدمه، فإنها تخضع في أغلب الذهنية العربية لأحكام الحرم. لقد كانت الذاكرة الفلسطينية العربية، قبل أنيس الصايغ، عبارة عن ذاكرات فردية نستقي منها حكايات الفواجع وأخبار الرحيل، وحينما أخذت وجها عصريا فإنها لم تتعد أرشيفات بعض الصحف في القاهرة وبيروت، ومن يريد أن يتعمق أكثر فلا غنى له عن الوثائق البريطانية ومركز جون كندي. لكنها مع أنيس الصايغ عادت لكي تصبح ذاكرة حية، فاعلة، تتكئ على توثيق الماضي بأسلوب علمي وتؤسس لاستشراف المستقبل علميا فيما هو مأمول. ظل أنيس الصايغ يحرس الذاكرة على هذا النحو حتى يومه الأخير، رافضا التخلي عن مهمته “حتى لا تظن إسرائيل إني هربت من المعركة خوفا من إرهابها”. عادل علي adelk58@hotmail.com