قررت أن أكتب سيرتي الذاتية ولماذا لا أفعل؟ وقد كتب طه حسين الجزء الأول من سيرته، قبل أن يصل إلى الأربعين من عمره، إن لم تخني الذاكرة؟ صحيح أنني لست طه حسين قدراً ووزناً ودوراً، ولكني وصلت إلى ما بعد الستين، وأحمل سنوات عمري على كاهلي، بعد أن اشتعل الرأس شيباً، ولذلك توكلت على الله، وأخذت أستعيد صور حياتي، حريصاً على أن أكون صريحاً، وأكتب عن كل شيء، لكني لم أستطع تنفيذ ما عرفت عليه، واكتشفت أنني لن أجرؤ على هذه الصراحة، حتى لو زعمت أنني سألتزم بها. هل أكتب عن السرقات الصغيرة التي كنت أقوم بها من حقيبة أمي، نزقاً أو شيطنة أطفال؟ هل أكتب عن تجاربي الجنسية الباكرة؟ هل أكتب عن النساء اللائي عرفتهن في حياتي على امتدادها الطويل، في مصر وأوروبا وأميركا والأقطار العربية التي زرتها؟ هل أكتب عن السقطات التي وقعت فيها والتي أشعر بالندم عليها؟ هل أذكر مواقف أرى نفسي فيها، الآن، صغيراً تافهاً، هل أهتم بالمواقف التي كنت فيها أنانياً؟ وماذا عن الموقف الذي تسرب فيه الشك الديني إلى نفسي، بعد قراءاتي في الفلسفات المادية، وحيرتي إزاء الأسئلة الوجودية الكبرى؟ وسرعان ما اكتشفت، في ثنايا فعل الكتابة، أنني أجبن من أن أكتب بصراحة مطلقة. الطريف أنني تذكرت أن كاتباً ما استخدم هذا التعبير “بصراحة مطلقة”، وهاأنذا أسخر من التعبير ومن نفسي، وأسأل ما هذه الصراحة المطلقة وما حدودها ومداها ومجالها. الحق أقول إنه لا صراحة مطلقة، وكل صراحة غير مطلقة، وإنما مواربة، أو مجازية. وأعتقد أن الإبداع قد اخترع المجازات والكنايات وغيرها من الصور الشعرية لهذا السبب، فهي سبيل لتحديد ما لا نستطيع تحديده، وهي سبيل الكلام القدسي في تقريب المعاني المطلقة إلى العقول الإنسانية المحدودة، كما أنها سبيل العقول الإنسانية في التعبير عن ما لا تملك قدرة التعبير المباشرة عنه، ولذلك زعم الكثيرون من أهل النقد أن أهمية الاستعارة تكمن في قدرتها على تحديد ما تعجز اللغة عن تحديده، شأنها شأن المجاز والكناية والأمثال التي تصبح وسائل يلجأ إليها المقمعون في التعبير عن قمعهم، ويطلق المسكوت عنه بلغة إيسوبية، نسبة إلى حكايات إيسوب، توصله دون أن يقع عليهم بطش القامع الذي تتعدد صوره وأشكاله، ويكون له من ينوب عنه في أعماقنا التي نستجيب إليها دون أن ندري.