في العالم الثالث، عالم ما بعد الشمس وما خلف الأرض، كل المشاريع السياسية والاقتصادية والعقائدية والاجتماعية والثقافية تؤدي إلى الفشل الذريع والسقوط المريع والانهيار الفظيع لأنها مشاريع منقولة عن عواطف ومشاعر نابعة من شريان مضغة القلب، لذلك فهي تتوه في الدرب عمياء بكماء، صماء، بلا خصب أو حطب·· مشاريع تنمو على تربة الأمنيات الباهتات السابحات السارحات المترعات من تهرب وخطب·· أمنيات لا يصقلها عقل ولا يشذبها أصل ولا يرويها أصل· عالم ما تحت الأرض، مشاريعه الاستراتيجية زلازل وأهوال وأحوال مرتبكة مشتبكة مضطربة خربة، ضاربة جذورها في الأنانية والفردية والذات المعطوبة والمضروبة والمسلوبة والمسكوبة في أوانٍ صدئة، نتنة، فلا نحن نمضي على الأرض الهوينى ولا نحن نسمق في الفضاء ناضجين مستوين منضوين مع عالم يتطور وينمو ويكبر وتتسع دائرة تصوره كحدقة عين في ضوء القمر·· عالم ثالث مكتظ بالتطلعات، مختص بالتصورات، مرتص بالأماني والآمال ولكن كل خطوة تعلوها كبوة وكل نظرة تصطادها نكبة وكل قفزة تحدها عقبة، أحلامنا كوابيس ونواحينا دبابيس والكون المسقوف بالعلم والفهم والتفسير، يلفظنا ولا يحفظنا، يقذفنا ولا يلم شتاتنا، يأكل من عظم الفكرة ولا يمنحنا التدبير في أمره· عالم ما تحت الأرض، وما بعد الشمس والقمر، يعيش في خبر كان ويحفظ من الزمان مفتريات الفرسان وليالي الشجعان والذين هرقوا وتدفقوا وسرقوا نظرة التبصر والتدبر من عين الإنسان والذين أسسوا جمهوريات بلا أركان والذين حولوا الحلم الجميل إلى أعشاش غربان، والذين اخترقوا قوانين الطبيعة فاحترقوا وأحرقوا حتى شعرة معاوية ما بين الحقيقة والخيال، وفما كان المآل إلا غابة مسترابة تؤمها الوحوش والضواري ولا شيء غير السراب بحجم مستطيل، طويل، هزيل، ضئيل لا يسمن ولا يغني من عوز وفاقة· عالم ثالث، عالم ما تحت الضوء، خلف الحقيقة، أقسم ألا يكون إلا في ذيل القائمة بخلايا نائمة وفلول حائمة وأضواء قاتمة ونواحي معتمة مفعمة بالاحتقان والارتهان إلى الماضي البعيد والبعيد جداً والذاكرة مثقوبة، محلوبة، مشلولة، مسلولة، مفلولة، مصفودة، معقودة، على تاريخ أججه الزمان، فما رجحت موازينه وما امتلأت معاوينه وما جلت طواحينه· عالم ثالث، عالم ما بين البين وما بين اللاهث والمسترخي في حين يمضه أساه ويسفه أوله ومنتهاه، ولا تحتويه غير آهة، النحيب العجيب والمناجات والشعر الباكي المتباكي المتشاكي الناعي ليوم مضى وغد أفضى إلى شقاء واكتواء وانطفاء وخمول وذبول وشحوب ونضوب· عالم ثالث، مثلثه بلا أضلاع ولا باع ولا ذراع ولا متاع ولا يراع ولا شراع يسير في التيه مكسوراً، مجروراً، مخفوراً، مطموراً، مضموراً تستعمره عقد النقص والنكوص إلى دوائر مغلقة بلا رئة تتنفس ولا عين تعرف أين الحقيقة وأين مربط الفرس· عالم ثالث لا يزال يغرق في بحر لجي، ويعج ويضج بالحنين إلى الأحمر الفاقع وبلا دافع أو شافع يخوض ركابه باتجاه مجهول مبلول بعرق الكابحات الرابضات عند سيف وصيف ورجف وعزف ونزف وخوف وزحف على الرمال المتحركة· عالم ثالث، ورابع وخامس وما بعد الأرقام حتى الصفر الناعس العابس الرافس عند النهايات القصوى· عالم ثالث مازال يحفظ ويلفظ وينخفض حتى الدرجات العليا للتجمد ولا حلم له غير التلبد والتبدد والتشدد والتشرد حتى بات طرائق قددا وعددا بلا عدة وعدداً· عالم ثالث يشد اللجام والخيل واقفة والقلوب راجفة والعقول واجفة وأرتال التخلف زاحفة حتى شوائب الرأس ونافلة النفس· والله المستعان·