تفاجئنا ذاكرة الآخرين عندما نمر معهم بمواقف وتختلف رؤاهم عن منظورنا لذات الأمور، ولكن بين الذاكرة والذكريات تستريح الهمسات والتفاصيل التي نحتت قصصاً وتصورات تجعلنا بشراً قادرين على التفاعل مع ثلاثية الضحك أو البكاء، وربما الحب· يوم الجمعة الماضي رن الخليوي قبل أذان الظهر بقليل وعندما عاودت الاتصال جاءني خبر مفجع تعاملت معه بهدوء وسكينة اكتشفتها فيّ تلك اللحظة بالتحديد، وبعد الصلاة ذهبت للعزاء إلى أن أدركت منظومة جسدي ونظرت في المرآة فرأيت رِجلاً لا تعي وطأة القدم، وأذناً تزور قنواتها أصوات تعددت حساسيتي وردود فعلي تجاهها، وعيناً ترى من اقتنصتهم هذه الواقعة واعتقلتهم في أشراك الواجب الاجتماعي، ورئة تلفظ أنفاساً بلا توازن أو اتفاق· في مجلس المواساة، جاءت كل سيدة بما لديها، موضحة موقعها من الإعراب عند تلقي الخبر ثم تأتي بذكر طرفة أو موقف مر بها مع المتوفى أو نبذة مبسطة عن الأسف على شبابه وتمني البركة لأبنائه، وأكدن جميعهن تعاطفهن مع زوجته وتمنياتهن ودعواتهن لوالدته بالصبر والنسيان· لقد قمت بتسجيل تلك التعاملات، فأمور كهذه لا يمكن التعامل معها كعابر سبيل، فاحتجزت المواقف والذكريات عند خانات التحليل والتعليل والتظليل، فرأيت الشجاعة الأدبية والإبداع في إلقاء المراثي التي يوقن طارحوها أن مستمعي المجلس سوف ينتقدون أو يثنون على أساليبهم في التعبير عن الأسى ولوعة الفراق وإيمانهم بالله جل وعلا· وأدركت قوة الإيمان عند احتباس دموع من نتوقع منهم شلالات تجرف مساربها كل منطق وتعزز رفض الواقع الجديد· وفي بيوت العزاء، تبدو ظواهر طالما تمنينا تواجدها طبيعياً كتوحد الصف واتفاق العرب مهما اختلفت معطيات بيئتهم وثقافتهم المحلية أو ظروف معيشتهم في البلد المضيف، على أن الموت نهائي كالطلاق البائن بينونة كبرى· وفي مجالس الحزن، دارت مباخر العود وفي غفوة ويقظه جالت في الذاكرة أطياف ورموز أنعشت ذكرى الجميل الذي غيبه الموت، فعكست مفاهيم الحلم وانعكاس فراق الحياة على ممارسيها، وتجلى ما ذكره ابن سيرين في ''تفسير الأحلام الكبير'' إن رؤيا العود والتبخر به يُؤوّل برجل حسن الوجه لطيف الكلام لين الطبع ويعود بثناء الناس إليه، كما أن العبير ومجمل الروائح الطيبة من أي نوع كان مفرداً أو مختلطاً فإنه يدل على حصول المال والعلم والأدب والثناء والفعل الجميل والخير والنعمة والبقاء والبركة والأشغال المحمودة· هذا ما استجمعته من وقع العبير على الذاكرة، وبعيداً عن الحزن نبشت في دفاتري القديمة فوجدت خدعة أدهشتني في حيرة السؤال، وفي بعض مما كتبت إلى ذلك المخلص: ''من آخر الكلمات جاءت إليه وفي يدها ما حملته منذ سنين عديدة بعيدة تفاصيل المودة ورسائل قديمة قدمتها وعندما بكت لأنها لا تستطيع ما هو جميل قتلها الحب فقلت له: هذه المرة سر ولا تعد فما هنالك يبقى سوى ما لديك''