في مقالتهما “هل فُضح سر المعري” (لوموند دبلوماتيك ـ النسخة العربية العدد669) يُفصح مترجما بعض لزوميات المعري للفرنسية (باتريك مغربنه وهوا فونغ) عن الاعتقاد بتحدي نص المعري ليس للترجمة إلى لغة كالفرنسية بل لقراءته بلغته وتأويل دلالاته. فثمة سر لم يدركه معاصروه، ولا كتّاب عصرنا الحديث وباحثوه، وهذا ما يفسر تجنب دراسته في برامج الجامعات العربية والرسائل العلمية، والتأليف والنشر حيث لم تفه الكتابات عنه حقه. يعترف المترجمان بأن شعر المعري إشكالي كفكرِهِ. وترجمته تمثّل دعوة للتمحص في إشكالية الحداثة ذاتها؛ فهما يعتقدان بأن نصوص اللزوميات تستبق الحداثة الغربية، وهي مناسَبة لإمكان القول بأن فكر الحداثة بدأ في الشرق، متقدماً عبر اللزوميات على الفكر الانتقادي لكانط وتناقضات باسكال ووجودية كيركجارد. تعرض اللزوميات محنة فكرية في المقام الأول، وتعكس محنة الفلسفة ذاتها، فتلخص أسئلة الوجود الأزلية حول الحق والعقل والموت والإيمان والتقاليد والتعاقد البشري وعلاقات الإنسان بالآخر. لقد كان المعري رهين محبسين (العمى والبيت) برأي معاصريه لكنه يضيف ثالثا إلى محابسه بالقول: “لفقدي ناظري ولزوم بيتي/ وكون الروح في الجسم الخبيث” ويرى أن مجيئه للدنيا جناية ارتكبها أبوه ولم يفعلها هو؛ حتى أن حبل النسل المتواصل منذ آدم انقطع عنده؛ فعبّر عنه لغويا بالقول: “ولم يوصَل بلاميَ باءُ”. إن تحميل اللزوميات تلك الهواجس والأسئلة جلب لها النفور على مستوى التلقي، فكان المعري يعقّدها نظماً وكأنه يهزأ بمدارك قرائه ويتحدى أفهامهم، مضيفاً للّزوميات عبئاً أشد في مقام تلقيها. فكرتُ بما سيصل من اللزوميات لقارئ فرنسي، وهو أمر لم يغب عن المترجمَين كما بينتْ مقدمتهما، لاسيما وهما بدورهما غريبان عن الفرنسية، كصاحب اللزوميات نفسه، وذلك سيزيد سر المعري وشعره التباساً وحيرة فوق ما تحمله اللزوميات من تعقيد حدا بالمعري نفسه ليوضح خفاياها، وتلك الصعوبة أو تحدي الترجمة تكمن في الخصوصية اللغوية للنصوص، وانبنائها على لزوم ما لا يلزم سواها فنياً، وقيامها على نظم مقصود تتسلسل فيه القوافي بحسب حروف الهجاء، وتتعدى القافية حدودها المألوفة والمطلوبة ؛ لتصل في بعضها إلى التزام ثلاثة أحرف كحدود للقافية، فضلا عن اللعب الداخلي في البيت الشعري فسه؛ كختامه بما بدأ به أو تضمين آخره ألفاظ أوله: “خوى دنّ شربٍ فاستجابوا إلى التقى/ فعيسهمُ نحو الحجيج خوادي” ولست أخمن كيف سيكون تلقي القارئ الفرنسي لنظم كهذا تذهب شعريته وسره بالترجمة، فيغدو كلاماً عادياً من حيث هو قائم في أصله النصي على بلاغةٍ تعضد المعنى وتسنده، وتصور حيرة المعري وارتيابه وشكوكه ومحنته التي يشخص المترجمان بعمق دور اللزوميات في إظهارها وتجسيد (انقلابات الفكر وتعثره ومشاجراته وافتراضاته فاستلزم عند المعري مالا يلزم من الصعوبة والإبداع اللغوي).