تبدو مواسم الانتخابات الرئاسية الأميركية، مناسبة لتجديد مفاهيم الالتزام السياسي والفكري والثقافي (والأيديولوجي؟) كل أربع سنوات· وكأن الأميركيين يقدمون أمثولة من لدن العالم الحر، الليبرالي، الخاضع لقوانين الرحابة الرأسمالية كما سنّها آدم سميث، تعيد الجميع إلى النقطة الأولى، نقطة الموقف من الأفكار والناس والحوادث والأشياء· والالتزام في جوهره هو هذا· تجد طبقة المثقفين والفنانين في الولايات المتحدة، أبناء هوليوود وبرودواي وأصحاب الأقلام المسنونة في عالم صناعة النشر، منبرها الصارخ في موسم الانتخابات، فتؤيد هذا المرشح أو ذاك، أو تعارض الطرفين معارضة مبدئية، تدين المؤسسة الواحدة التي يصدران عنها· ووسط ذلك، يتابع الناخب مرشحه المفضل ويرصد حركة النجوم والنجمات من حوله، وهم يجمعون له التبرعات لدعم حملته الانتخابية، وكان آخر هؤلاء 20 فناناً من مسارح برودواي قرروا تنظيم حفل تحت عنوان ''برودواي من أجل أوباما''· والمعروف أن الوسط الفني والثقافي الأميركي، بأغلبيته، يقف على يسار الحياة السياسية، منتصراً لقضايا الحق والعدالة داخل المجتمع الأميركي وفي العالم· وكانت هوليوود ومثقفوها الكبار، عرضة خلال فترة الخمسينات من القرن الماضي لتنكيل حملة المكارثية العمياء· وقد كان الالتزام، دائماً، قضية تشغل الأيديولوجيين قبل غيرهم باعتباره ''معادل'' نقاء لعملية الإبداع نفسها، أو بحسب تعبير كانت ''نزاهة المتعة''· فبلا التزام، يصبح الأدب والشعر والرسم والموسيقى والغناء، ملوثاً· هكذا فكر الماركسيون من قبل، وهكذا يفكر الإسلاميون الجدد الذين وقعوا في تشابهات كثيرة مع غيرهم في أدلجتهم للدين· وحينما نتذكر مقولات تندرج تحت مسمى ''علم الجمال الماركسي'' كبديل لعلم غير واضح المعالم هو ''علم الأخلاق البورجوازي''، نعرف أن مسألة الالتزام لم تكن مع هؤلاء، ولا مع غيرهم، مسألة مفاهيمية بقدر ما هي بروباغاندا أيديولوجية، روّجتها المدرسة الروسية ولاقت صداها عند فلاسفة أوروبيين معاصرين وكتّاب من العالم الثالث سحرتهم الكليشيهات قبل المضامين· وهذا بالضبط ما يقوله الناقد الفرنسي ماكس أوبريث الذي منح الأيديولوجيات فضل حض الأفراد على إعادة فحص مواقفهم نقدياً من العام ومسؤوليتهم نحو الآخرين، وكأنه بذلك يردد مقولات مواطنه بونوا دوني صاحب كتاب ''الأدب والالتزام من باسكال إلى سارتر''· وليس من قبيل المبالغة القول إن كل التنظير لمسألة الالتزام هو نوع من الأخطاء الشائعة، فالحرية قبل الأيديولوجيا هي التزام، كما يقول توفيق الحكيم الذي يعتبر أن ''الالتزام المثمر هو الذي ينبع من طبيعته، وهنا لا يتعارض الالتزام مع الحرية، بل هنا ينبع الالتزام نفسه من الحرية· لذلك لم أقل لأديب أو فنان: التزم، بل قلت وأقول: كن حراً''· يتجاوز الفنانون والممثلون الأميركيون بأمثولتهم، تلك، كل محددات الأيديولوجيا السابقة، لكي يكون لهم موقف من قضايا الحياة، وهكذا يفعل كل البسطاء في العالم، الذين لا ينتظرون الدليل من أصحاب فلسفات الهروب وكتّاب الكليشيهات· adelk85@hotmail.com