في ضحى خريف أوروبي شجي ومتقلب ندلف إلى بيت روبنز الفنان الفلامنشي الذي آخى أسلوب الكلاسيكية المتدينة وفتوحات عصر النهضة، واستوطن مدينة أنتويربن في بلجيكا، حيث تكاد تسمع وقع خطاه في أرجاء البيت الذي تأخذ حديقته ثلثي مساحته كما يقضي التقليد السائد في الأراضي المنخفضة وما جاورها، حديقة تسرق الانتباه قبل أن تلتفت العين إلى غرف البيت التي تحتوي لوحاته ولُقاه وأعماله، وهدايا الرسامين المعاصرين·· المياه تتدفق من نافورات بشكل حيوانات أو منحوتات حجرية فيما تتظلل الفضاءات المطلة عليها بالأشجار التي كانت تشهد استراحات الفنان بعد أن تتعب يداه من العمل في الأستديو مصحوبا بطلابه ومريديه، ليس بعيدا عن قلب المدينة وقرب الساحة الخضراء وشارع مير المخصص للمشاة والمقاهي والمحلات فقط· تهبنا الإجازة الصيفية المتأخرة فرصة التطلع المتجدد لبيت روبنز: لوحاته الآن تحت التأمل والنظر: الباروكية التي تفيض تدينا وترجمة للرموز والأساطير تؤاخي دقة نقله للتفاصيل وعنايته بالضوء والظلال - مذكرا برامبرانت - لاسيما في الصور الشخصية والمناظر المنفذة بالزيت على القماش وبأحجام كبيرة غالبا، تستوقفنا خاصة تصوراته لقصة الخلق وفي لوحتين عن آدم وحواء قبل الخطيئة الأولى وسط أجواء فردوسية يعلم المشاهد -ولا يعلمان هما- أنهما سيفقدانه لاحقا، آدم منحنيا كأنما ليقنع حواء بفكرة ما، تظهر سمات القلق إزاءها على وجهها المشع وسط عراء جسديهما·· ذلك الحوار غير المفصح عنه إلا بالصمت يستمر ليستفز تأويلات الذاكرة البصَرية وتبحث عن تعليل لوجود أرنب صغير أسفل اللوحة وتكرار الموضوع في معالجة أسلوبية مختلفة· في مطالعات بصرية سابقة لم تلفتنا أسطورياته المغيبة بسبب المضامين الدينية لكن الرصانة تكتمل إطارا لهذه المعاينة بعد تفحص مدلولات أشياء البيت· كانت الزيارة هذه المرة يوم عطلة يزيد الهدوء حول البيت رهبة وشاعرية بينما تستريح مخلوقات لوحاته من زمن ممض وثقيل يبعدها أكثر من ثلاثة قرون ونصف عن حضورهاالماثل (توفي روبنز في مدينته في 17/5/1640 في الثالثة والستين)· مؤثرات تستهوينا شهية البحث عن مراجعها الرومانية غالبا، وتؤكدها زيارة الفنان وإقامته الإيطالية، ونبحث كذلك عن مغزى التناصات التي يعملها على أعمال فنانين معروفين ليعيد رسم موضوعاتها· بعض أعماله عن الصلب تسكن في كاتدرائية المدينة الشهيرة بمعمارها والقريبة من بيته الذي اشتراه بعد عودته من إيطاليا ليكون محترفا وسكنا تتناغم فيه أجواء الفن والحياة وتفضي ممراته الضيقة إلى غرفه المتداخلة المكتظة الآن بالمعروضات· يعطينا بيت الفنان نموذجا لفيض الروح على المكان وتفاعلها معه، وحيث يقتعد الزائرون المتعبون مساطب الحديقة تكون أرواح الرجال والنساء الذين رسمهم روبنز مجسمين بيضاء الألوان الحادة تستريح في أفياء الفضاء المفتوح معانقة سماء تزيدها الغيوم الخفيفة عذوبة وأسى