علاقتي بالبحر قديمة بدأت تحديداً عندما كان عمري لم يتجاوز العامين وكان ذلك منذ زمن بعيد جداً، حينها كان والدي رحمه الله يصطحبني معه للصيد، وكثيراً ما كان يتركني لساعات ألهو في كوخه القديم، ويدخل هو البحر ليأتي لنا برزق الله كما يردد دائماً.. عندما كبرت قليلاً كان والدي قد اكتفى من أسفاره وتحول من نوخذة إلى رجل يحب البحر، وارتياده كهواية وليس كمهنة. كنت فخورة بوالدي كونه نوخذة، لكنه قال إن الحياة تغيرت، ولم يعد للنوخذة دوره المعتاد، ثم أنه لم يعد شاباً كما كان وأصبح يخشى من غدر البحر، ورغم حبه لمحمله الخشبي العتيق. فقد تخلص منه، كان دائماً يحب أن يقص علينا مغامراته وأسفاره البحرية، وكان يحكي لنا كيف أنه يحب محمله لأنَّ بينهما علاقة متبادلة، فقد خاضا المغامرات معاً، وأنقذا بعضهما البعض من أهوال البحر وأمواجه، وقادا بعضهما البعض إلى أماكن بعيدة.. استعاض أبي عن محمله بطرادين يعملان بمحركات قوية يحملانه إلى وسط الخليج، ويتنقل بهما بين جزر أبوظبي، وكان يضحك عندما يأخذني معه لأنني أقف على مقدمة الطراد، وأنشد أناشيد وطنية تعلمناها في المدرسة، وكان يقول لي أنشد يانهام، وكنت أبدأ إنشادي بكلمة “أويامال”، وعندما أنتهي يكمل والدي بأهازيج بحرية تلاشت الآن من ذاكرتي.. كنت تلك الطفلة التي تحب والدها، وتحب البحر وتحب هواءه المنعش، خصوصاً عندما يداعب شعرها بقوة، ويجعله يتطاير بفعل سرعة الطراد المنطلق على صفحة مياه الخليج الزرقاء.. أذكر جيداً عندما ذهبنا لصيد اللؤلؤ، وساعدت والدي على جمع الأصداف من المياه الضحلة، وعدنا في نهاية اليوم بصيد وفير لكننا اكتشفنا أنَّ جميع الأصداف لا تحمل إلا التراب والكائن البحري الذي لم يعش كثيراً خارج المياه، حتى الصدفة الكبيرة التي وجدناها، وكان والدي يحلم أن يجد بداخلها دانة، سقطت في البحر، أو ربما نسيها والدي في القارب على شاطئ البحر.. وعندما عاد بعد أيام إلى قاربه وجدها منسية مهملة، وعاد بها إلى البيت فرحاً وفرحنا جميعاً عندما فتحها لنجد دانة كبيرة قال عنها والدي إنها رزق من عند الله.. إيمان والدي القوي بالرزق الإلهي الذي يأتي من البحر أو من السماء يكفي للجميع، ولذلك كان يقتسم ما يتحصل عليه من أسماك مع الجيران والأقارب.. اليوم لم يبق من كل ذلك شيء غير بقايا ذكريات عالقة في الجمجمة.. حب البحر يبقى في القلب حتى وإن لم يعد البحر كما كان، وحتى وإن اختلط كل شيء، وحتى وإن لم يعد لعائلتنا بحرها الخاص.. ستبقى تلك الطفلة التي كبرت الآن تحب البحر وهواءه المنعش، حتى وإن كان حباً من بعيد فقط. أمل المهيري amal.almehairi@admedia.ae