في اليابان تلمس حرصا وتشددا وتشديدا على الكلمة قبل تحريك صاحبها لسانه بها، تشددا يصل حد المعاناة وعدم التسامح والغفران للنفس، وربما كانت لغتهم إحدى أكثر لغات العالم تهذيبا· وفي إحدى المرات تابعت تقريرا صحفيا عن مقدار التهذيب في هذه اللغة لدرجة أن كلمة وداعا او ''سيانورا'' تعني'' اعذرني لأنني ساغادر''، وذكر التقرير ايضا أن اقسى وأبشع عبارة يمكن أن يقسو بها الرجل على المرأة أن يقول لها'' اذهبي يا دجاجة''!!· وتابعت احتفاء اليابانيين ببطولة فتاة عاملة في متجر يعمل على مدار الساعة استطاعت أن تسيطر على لص مسلح حاول أن يسطو عليه، واعتقدت أنها شلت حركته بضربة ''كاراتيه'' او ''كونج فو''، ولكنها اكتفت بالوقوف مكانها وعدم الانصياع لطلبه بإفراغ غلة المتجر في كيس كان معه، واطلقت كلمات كالرصاص من فمها، وكانت الضربة القاضية التي جعلت اللص يجثو مستسلما عندما قالت له عبارة'' إنك وأمثالك تهدمون مجتمعنا''!! وعندما زرت اليابان لا حظت طلاقة من ألتقيهم وأحاورهم في الحديث باللغة الانجليزية، ولكنهم عندما يبدأ اللقاء الرسمي المسجل يصرون أن يتم عن طريق المترجم، رغم أن بعضهم من خريجي ارقى الجامعات الاميركية والبريطانية، ويودعونني بعد ذلك بانحناءة أحرص على الرد بأحسن منها مع أنني لم أكن أميز بين انحناءة الامتنان او الاعتذار · في البداية كنت اعتقد أن المسألة تتعلق بالتمسك بلغتهم الأم، حتى فسر لي احدهم الامر بحرصهم على عدم الخطأ في إيراد كلمة او توصيل معنى، فقد تربوا على أن ''الكلمة كالسهم( أو الرصاصة) متى ما خرجت لا تعود''· وفي ذات الرحلة كنت في مدينة ناجازاكي التي دكتها ثاني وآخر قنبلة نووية في التاريخ، أجري لقاء مع ناج من اهوال ذلك اليوم المحفور في ذاكرة البشرية، وكانت تتولى الترجمة مترجمة محترفة، وانتهى اللقاء كما كان مقررا· وبعد يومين كنت في كيوتو العاصمة القديمة للبلاد، وتلقيت عبر بريدي الالكتروني رسالة اعتذار من المترجمة تطلب الصفح فيها لأن الكلمة التي ترجمتها لم يكن معناها الحرفي بذات المعنى الذي أوردته هي في اللقاء رغم أن الاختلاف بين المعنيين يكاد لا يذكر!! استعدت هذا المسلك تجاه قدسية الكلمة لدرجة الهوس المحموم بينما كنت في منطقة خاصة بالاطفال في احد متنزهاتنا في العاصمة، وقد سمعت طفلة عربية لم تتجاوز الثامنة من عمرها على ابعد تقدير توجه عبارة قاسية الوقع لشقيقها، لا تكاد تفقه معناها لأنها ببساطة التقطتها من محيطها الأسري· يتحدث الكثيرون عن التهذيب ، وهم يقدمون دروسا مجانية على مدار الساعة في عدم احترام الاخرين بالتصرفات العملية واللفظية، قد يكون ابسطها عند الطلب من الصغير إبلاغ الطارق على الباب او المتصل بهاتف المنزل أن أباه ليس موجودا، بينما هو يرى والده أمامه يطلب منه ألا يصدق ، ونحن نعلمه تلوين الكذب !!·