عندما يصدمك أمر ما فإنك غالباً ما تتجنب الاقتراب منه ، وعندما يسبب لك الكثير من الضيق والإحباط والشعور بالدونية أمام الآخرين فإنك تبتعد عنه ولا تتعامل معه ، وقد تلغيه من حساباتك نهائياً فلا تعترف به ولا بأهميته ، هذا هو حالنا كعرب مع الأرقام والإحصاءات ، فكل الأرقام التي تنشر عن واقعنا الثقافي والسياسي والاقتصادي والصناعي والإعلامي والسينمائي والتنموي ، أرقام صادمة ومفزعة كما أوردتها تقارير التنمية البشرية والإنسانية الأخيرة ، نقول صادمة حتى لا نقول مخجلة! سؤال القراءة من الأسئلة المهمة في العالم العربي ، فهل يقرأ العرب ؟ وإذا كان الجواب بالنفي فلماذا لا يقرؤون ؟ أحد الكتاب العرب كتب منذ مدة يقول العرب لا يقرؤون لكنهم يتفذلكون ، ويعني بعض مثقفي العرب وبعض كتابهم الذين يتبارون في مسألة الفهلوة اللغوية واختراع مصطلحات لا يفهمها إلا من يكتبها ، ومع ذلك يبقى السؤال قائماً : لماذا لا يقرأ العرب ؟ نحن لا نقرأ بالفعل وذلك بشهادة الأرقام التي تقول إن كل عشرين مواطناً عربياً يقرؤون كتابا واحدا في السنة ، بينما يقرأ كل ألماني سبعة كتب سنويا ، ولندع جانبا حجة أن الاجانب يقرؤون في الأغلب روايات الجيب الخفيفة وفي القطارات ولا شيء آخر ، فهذا كلام غير صحيح تماماً وإلا فمن يقرأ كل هذا النتاج الضخم من الكتب المعرفية الهائلة التي تطبع في أوروبا والتي تقول الأرقام إن ما ترجمه العرب منها منذ عهد الدولة العباسية وحتى اليوم لا يعادل ما ترجمته دولة أوروبية واحدة في عام واحد ! الحقائق تقول أيضاً إن معدل قراءة الانسان العربي هو نصف ساعة في العام بينما يقرأ الغربي 36 ساعة سنوياً في المتوسط ، لكن ماذا يقرأ العربي عادة ؟ الرجال في العالم العربي يفضلون كتب التراث الدينية وكتب الجنس وتأتي السياسية في المركز الأخير ، بينما تفضل النساء كتب الطبخ والابراج والتجميل والكتب الدينية بطبيعة الحال ، وهذه النوعية من الكتب لا تمنح قراءها كل العلم والمعرفة ، ذلك أن المعرفة جهد قرائي يأتي من مصادر متنوعة ومتعددة وعلى جانب من الرصانة والمصداقية شريطة أن تستقي هذه المعرفة من ينابيعها دون تمييز أو تحيز فالمعرفة عالمية التوجه وتحتاج إلى جهد متواصل وأفق ومنفتح · إنني أستغرب بالفعل من بعض الآباء الذين يشتكون من انعدام التوجه للقراءة عند أبنائهم ، بينما لا يبذلون أي جهد لتنمية وتقوية وتعزيز هذا التوجه ، فالآباء والأمهات يحرصون في إجازة نهاية الأسبوع ، وفي أية فرصة سانحة على اصطحاب أبنائهم للمراكز التجارية للعب ، أو لشراء الألعاب ، وحين يعودون للمنزل فإنهم يقضون بقية الوقت في اللعب بتلك الألعاب ولا شيء آخر !! فكيف سيتأسس فكر وتوجه القراءة لدى هؤلاء الصغار الذين كما يقول الكاتب المصري المعروف '' سلامة أحمد سلامة '' إن الطفل إن لم يعتد على القراءة فيما قبل سن الثانية عشرة فإنه لن يحب القراءة فيما بعد ومهما قدمت له من مشجعات أو مغريات ، ذلك أن نافذة القراءة تنغلق في ذهنه وإلى الأبد ''، وساعتها تتحول كل محاولة لدفعه للقراءة إلى حالة إكراه باستخدام أشياء أقرب للرشوة ( أموال - هدايا - لعب - ···) ! إن اعتيادي على القراءة حينما أتأمله اليوم وبعد هذا العمر من قراءة آلاف الكتب في كل الاتجاهات والمعارف ، أرجع الفضل فيه الى والدتي التي برغم عدم معرفتها بالقراءة كانت تحظني على القراءة واستعارة القصص من مكتبة الفصل ( أيام كان في كل فصل مكتبة ) وعلى أن أقرأ لها تلك القصص وأنا طفلة في السابعة أو الثامنة من عمري ، كانت تقول لي دائما '' حتى الورقة الطايرة في السكة احتفظي بها واقرأيها فقد يكون فيها شيء يستاهل أن يعرف ويقرأ '' وعندما أعود من مدرستي كل يوم كانت تسألني '' ماذا أحضرت اليوم من المرسة كي تقرئيه لأمك الحبيبة ؟؟ القراءة معرفة هائلة ومتعة لا حدود لها ، لكنها لا تتأسس في نفوسنا هكذا من فراغ ، إنها تربية طويلة الأجل ، ومتواصلة خلال العمر ، إنها رحلة في نهر بلا نهاية ، تضعنا أمهاتنا في لجته دون أن يخشين علينا من الغرق · ayya-222@hotmail.com