فكرة الفراغ والامتلاء، فكرة غنية ومتشعبة، وهي تمت بصلة إلى العلوم الفيزيائية والفلكية، كما أنها تنتمي إلى القصيدة واللوحة المرسومة، وهي فكرة متطورة مع الأزمنة، ويمكن أن يرصد لها ارتدادات فكرية وفنية قديمة وحديثة. ولعله في الطبيعة، كما في الفنون، من شعر ورسم بصورة خاصة، يصعب قبول فكرة الفراغ، فهي فكرة مطرود، نظراً لما يشكله افتراض وجودها من خلل كوني أو خلل فني. ولو اعتبرنا البياض في اللوحة التشكيلية هو الفراغ، فإن هذا البياض هو بمثابة حيوان ينبغي قتله.. لأنه يفترس اللوحة، ويخلخل توازناتها، ويجعلها عرجاء أو هشّة أو ناقصة التكوين. ولعلّ هذه المسألة المهمة في العمل التشكيلي، بدأ يتلمسها الممهدون لفن النهضة الأوروبية في القرن الثامن عشر، وهم فنانو القرن السابع عشر في كل من إيطاليا واسبانيا، من أمثال زورباران وريبييرا وريبالكا. فإنّ فخاريّات زورباران مثلاً، كانت محكمة وشديدة التماسك، وتشكّل أرضية صلبة لما تلاها من فنون القرن الثامن عشر. وما قام به بعد ذلك، الفنان العبقري المجنون فان غوغ من رسوم وتصاوير للطبيعة، كعبّاد الشمس، أو للكنائس والحقول والأشجار، وكأنه سكب عليها ذاته القلقة الصفراء، فإنه من باب سدّ الفجوات في الطبيعة واللوحة، بما يفيض من ذات الفنان من لون وضوء.. فكل شيء في النتيجة هو ذات الفنّان، ولا مكان للبياض أو الفراغ أو الحياد في هذه الذات. ولعلّه أكد ذلك، بل رسّخه فيما رسمه من متاعه الخاص، ومن أشيائه، كالسرير الذي كان ينام عليه، والكرسي الذي كان يجلس عليه، وما إلى ذلك من أشيائه، التي كان يملأ بها فراغ القماشة البيضاء، وينهال على هذا الفراغ، كوحش، يمزقه، وعلى بياض اللوحة، يلطخه بأشيائه وألوانه. إن البياض في اللوحة، فراغ مستفزّ، بل لعله هو المحرّض للفنان على ملئه، أي على الرسم بحد ذاته، وإنطاقه بالخط واللون، ولولا ذلك لبقي الفراغ والبياض أبكمين. يثير البياض الرسّام، كما يثير الماتادور الثور بخرقته الحمراء.. ولا يكون الفنّ إلا من خلال صرع البياض على اللوحة، صرع الفراغ.