“المثقّفون” عنوان لرواية ضخمة كتبتْها الروائيّة الفرنسيّة المتألّقة سيمون دو بوفوار، ونشرتْها بباريس في جزأين اثنين ضخمين، وقد ترجمتْها إلى العربيّة الأستاذة ماري طوق، ونشرتْها دار الآداب البيروتيّة، قبل أن تشتري مشروع (كلمة) في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث حقوقها، وتعيد نشرها بين قرّاء العربيّة فظهرت من جديد في حلّة أنيقة. وأنا شخصيّاً استعدت ذكريات قراءة هذا العمل منذ عهدٍ طويل باللغة الفرنسيّة، فسُرِرْت بقراءته تارة أخرى مترجَماً إلى اللّغة العربيّة. والعنوان الأصليّ لهذا العمل السرديّ الكبير هو «Les Manda­rins». وتعني هذه الكلمةُ في اللّغة الفرنسيّة “المثقفين العديمِي التأثير”، فربما تكون الترجمة الأقرب إلى الدقّة “المثقفون التافهون”، لأنّ الدلالة المعجميّة للفظة الفرنسيّة المأخوذة من اللّغة الصينيّة تجري في لغتهم مجرىً تحقيريّاً، لا تعظيميّاً؛ إذ الغاية من عنوان سيمون دو بوفوار، غالباً، هو السخريّة من أولئك المثقفين الذين كانوا يرون أنّهم على شيء من التأثير في المجتمع، والحال أنّ تأثيرهم كان أقلّ بكثير ممّا كانوا يظنّون. ولو كانت الروائيّة تقصد إلى ذلك لكانت اختارت عنواناً ملائماً لمثل ما اقترحته المترجمة كأن يكون «Les Intellect els». وإذن فهي قصدت إلى شيء من السخريّة من الطبقة المثقفة في باريس أثناء الحرب العالميّة الثانية. ولَمّا كانت الكاتبة الفرنسيّة، سيمون دو بوفوار، صديقةً وزوجةً للفيلسوف الفرنسيّ الشهير جان پـول سارتر، شديدة الإعجاب بفكره وعقله، وبنزعته الوجوديّة خصوصاً، فقد كان ذلك لا مناصَ من أن يتجلَّى في معظم كتاباتها الروائيّة، وخصوصاً في هذه الرواية الضخمة التي تناولت فيها الحياة الثقافيّة والفكريّة والسياسيّة في المجتمع الباريسيّ، في أواخر أيّام الحرب العالميّة الثانية. لقد أفلحت الروائيّة في تصوير هذه الحياة بدقّة متناهية، وذلك بحكم أنّها كانت إحدى شخصيّاتها الفاعلة فيها، مع صديقها الكبير جان پـول سارتر، ومجموعة من السياسيّين والمفكّرين الفرنسيّين رمزت إليهم الروائيّة ولم تذكُرْهم بأسمائهم ذِكْراً، وحاولت المترجمة التدليل على شخصياتهم وأشخاصهم في المقدّمة الجميلة التي كتبتْها لترجمة هذه الرواية التي تقع بجزأيْها الاِثنينِ في أكثر من ألْفٍ وثلاثمائة صفحةٍ. ولعلّ الأمر الذي يمكن ملاحظته أنّ طول هذا النص الروائيّ يستدعي عزيمةً من القارئ، وهذا في حدّ ذاته يُعَدُّ بمثابة تربيَة أدبيّة للقارئ العربيّ حتى يُقْبلَ على قراءة هذا العمل الأدبيّ الضخم. إنّ مثل هذا العمل الأدبيّ الجميل ما كان له ليصلَ القارئَ العاديّ، بسعر بسيط، لولا جهودُ مشروع (كلمة) التي أصبحتْ تطوِي العالَمَ في واحد، ومن ورائها هيئة أبوظبي للثقافة والتراث... إنّ ترجمة مثل هذه الأعمال الأدبيّة، ذات الصِّيت العالميّ، إلى اللّغة العربيّة تُعَدُّ سعْياً مشكوراً، ولا ينهض به إلاّ مثلُ مشروع (كلمة) التي ملأت الدّنيا، في ظرف يسير، بما ترجمت، هي، ترجمة دقيقة جميلة، وبما اشترتْ من ترجمات أيضاً، فهي، إذن، أهلٌ لكلّ تنويهٍ وتقدير على ما تقدِّم للقارئ العربيّ من خدمات جُلّى.