كنت أكبر المتهمين في الملتقى العالمي للقصة العربية القصيرة، فما أكثر ما اتهمني مبدعو القصة القصيرة والمتحمسين لها، بأني المسؤول عن انصراف كتاب القصة القصيرة عنها إلى الرواية، وكأن مقالاتي وكتابي “زمن الرواية” والعددين اللذين أصدرتهما من مجلة “فصول” هي البراهين التي تؤكد ما ارتكبت من ذنب لم أجنه، ولذلك كان لابد أن أردّ على هذه الأقوال في المؤتمر، فأؤكد أن الناقد لا يمكن له تغيير اتجاه أدبي، مهما كان حجمه أو تأثيره أو وزنه، وإنما هو يرى ظواهر فيسجلها، وبراعته مرهونة بأنه يرى اتجاه الريح قبل اشتدادها، وحركة الأنواع قبل أن تبلغ ذروتها، وهذا ما فعلته، كتبت عما لاحظت من بداية تمضي في طريق صاعد له علاماته، وسجلت الحدث الذي أرهص بما سوف يترتب عليه، ولذلك فأنا لم أصنع ظاهرة، ولم أغير الاتجاه، بل قلت ما رأته عيني، وما أدركه وعيي، ولم أكن وحدي.. ربما كان صوتي الجهوري أكثر ارتفاعا وإلحاحا، لكني فيما ذهبت إليه ذهب إليه قبلي علي الراعي الذي وصف الرواية بأنها ديوان العرب المحدثين. والحق أن كتاب القصة القصيرة طرف في زمن الرواية، لأن ما يجمع بين الاثنين هو السرد الذي هو أقرب إلى متصل ينتهي بقطبين مختلفين في الطبيعة، لكن يصل بينهما السرد الذي إذا تكاثفت أحداثه وشخصياته واقتربت لغته المكتنزة من الشعر صار قصة قصيرة، أما إذا اتسع مداه وتعددت شخصياته وتكاثرت أحداثه وتغيرت أماكنه وتحولت فضاءاته صار رواية، وهكذا يغدو الأصل بين الاثنين واحدا كالأرض الواحدة التي تنتج نبتتين مختلفتين، لكن من جذر واحد. والأمر نفسه ملازم لزمان ومكان السرد، فإذا تحيز المكان وضاق الزمان كنا في قطب القصة القصيرة، وإلا أصبحنا في دائرة الرواية، وعلى المتصل الذي يصل بين هذين القطبين تتراوح الرواية، ما بين رواية قصيرة، هي أقرب إلى القصة القصيرة في صفاتها، أو رواية متوسطة هي الأقرب إلى الرواية الطويلة، وليس من الغريب أن يصل بين النقيضين صفة واحدة هي مرونة الشكل، فقد ذهب نقاد الرواية إلى أن المعيار الوحيد للرواية هو أنها بلا معيار شكلي، فهي يمكن أن تكون مجموعة رسائل أو تداعيات، ولا حجر عليها في تحولاتها الشكلية أو أقيستها المضمونية، فهي إمكان إبداعي خالص، يقوم الروائي بتشكيله على أي نحو شاء. وينطبق الأمر نفسه على القصة القصيرة التي يمكن أن تكون لحظة واحدة من الزمن، أو حالة، أو تأملا في شيء من الأشياء كقصة “النقطة” ليوسف إدريس، أو في وضع من الأوضاع أو حتى عادة، أو فكرة، فكما أن الروائي حر في التشكيل فكاتب الرواية عنده الحرية نفسها التي تجعله يغرق في الواقعية أو الرمزية أو الغرائبية، ولا فارق بين الاثنين من حيث المرونة، كما لا فارق بينهما من حيث إن أصل الشجرة التي هما ثمرتها هو السرد الجامع والفاصل بينهما في آن.