حين وقف سقراط أمام واجهات المحلات التجاريّة لمدينة أثينا العظيمة، مطلِقاً صرخة استنكار وتعجب؛ لماذا كل هذه المنتجات، ماذا يريد الأثينيون من كل هذا؟! كانت أثينا في ذروة ازدهارها المادي والروحي، الفلسفي والأدبي، وكان هناك ما يمكن وصفه بنوع من التوازن بين المادي والروحي في الحياة الإغريقيّة في ذلك الزمان. وهو ما نلاحظ مثيلاً له على نحو من الأنحاء في حضارات أمم أخرى على مرّ التاريخ البشري.. وفي بغداد التي كانت أثينا عصرها مدينة للسلام والحضارة والمعرفة، يمكن الكلام على هذا النوع من التوازن قبل سقوطها المأساوي وتكرار ذلك، حتى الوصول الى هاوية العصر الحديث، وهذا المشهد القيامي المريع.. تُرى ماذا يمكن القول في البرهة الراهنة ونحن نشاهد تراكم المنتجات الاستهلاكيّة الذي يدخل طور الخرافات والأساطير؟ مصحوباً بالسيل الجارف من الإعلانات والدعايات التي تشكل حيّزاً أكثر أسطوريّة وفظاظة من البضائع والسلع المنتجة على مساحة العالم، وفي مختلف الوسائل المسموعة والمرئيّة وفي كل الأمكنة في البر والبحر والجو، وما بينها من ضفاف وثغرات، تحتلها الدعايات العملاقة المضيئة اللامعة التي لا يمكن لكائن أن ينجو من سطوتها الباذخة، حتى وهو في كهف بأقصى قرية نائية.. ماذا يستطيع الإنسان على مساحة عمره، أن يستهلك من تلك البضائع والمنتجات التي شكلّت أسطورتها الخاصة متجاوزة بما لا يقاس، ليس ضرورات الاستهلاك، وإنما كمالياته وترفه، حتى مكبات القمامة لم تعد كافية لاستقبال فضلات المترفين والأقل ترفاً؟ تدخل أسطورة الاستهلاك، حتما في سياق المظاهر الاستعراضيّة والمفاخر لكائنات، ليس لديها ما تفتخر به، كائنات ينخرها الخواء الروحي والثقافي والأخلاقي، فليس لها من ملاذ إلا عقيدة الاستهلاك والمظاهر الاستعراضيّة البلهاء.. هذا ينطبق بشكل أكثر حسماً على البلدان والشعوب التي تستقبل تلك المنتجات والسلع والبضائع مع قيمها الجاهزة من إعلانات ودعايات صيغت بتقنيّة، مبهرة من الكذب والاستحواذ السطحي، وليس قيم وشروط الإنتاج والابتكار التي رافقت مسيرتها العقلانيّة والعلميّة حتى استوت وفاضت على هذا النحو الكاسح الذي أفرز فلاسفة وأدباء واصلوا الاحتجاج السقراطي على نحو مكتوب وأكثر استفاضة وتحليلاً. *** لا بد أن هذا الاستعراض الإنتاجي والاستهلاكي الذي يربض على معظم شروط الإنسان المعاصر، أن يصحبه استعراض يوازيه حجماً وانتشاراً، خاصة لدى البلدان التي تعيش عالة على الآخرين، استعراض لا يقل بذخاً إعلانياً ودعائياً، من الجثث المجندلة هنا وهناك.. من الجوعى والمحرومين من أبسط ضرورات العيش.. من الذين تسحقهم الحروب، وقذفت من بقيّ منهم على رمق الى صحارى العري الدموي والضياع.. والى مكبّات النفايات العملاقة كي تختلط أجسادهم الممزّقة مع فضلات إخوانهم المتخمين والملاّك الثابتين والمتغيرين باستمرار؛ إذ لا مقابر جماعيّة تستطيع استيعاب كل هذا العدد المهول من الضحايا والمنكوبين..