في الزمان الجميل كان كل شيء أجمل من الجميل، وكل شيء أصيل، المريحانة والعيدية والحناء، ثلاثي الفرح والمرح واللقاء الحميم، والقلب الرحيم وروح وريحان، وشيء من أطياب الهوى والوجه الصبوح·· عيد الناس الطيبين وأحلام الصغار الغضين اللدنين وخضر القلوب وبيض النفوس·· صباح كان يطل من نافذة العيون الدعج والحور والكحل·· صباح يفتح صفحة بيضاء ناصعة في دفتر الأيام يغدق على اللهوف الشغوف، الكلوف بصبابة ورحابة، ويمضي بالذاهبين الى مصلى العيد بالجلباب الأبيض الذي لم تخدشه حبة غبار نحو قبلة وابتسامة، وضحكة وجلجلة للعودة الى المجالس المفتوحة والمنفوحة بزعفران وهيل القهوة المزمزمة · في الزمان النبيل كان الوقت ينتظر العيد، والناس يتهيأون لجلب الذاكرة، وجلب المعنى والمضمون في سكون وهدأة النفوس وغبطتها ويقظتها ولحظتها المجللة بسياقات المعاني، الرابضات عند حافة الهوى، يزور الحبيب حبيباً، والصديق صديقاً، والمدنف يكتب في الصفحة الصباحية عن لواعج وخوالج وأشياء لا يسمح بها الرقيب والراصد واللامستجيب·· نتذكر الآن لحظتنا الماضية، لوعتنا القاضية، وفراغ المراحل، والجديد والمستجد، والمتصهد، والمتردد عند لب وجب· نتذكر الآن لحظتنا تلك، وومضتنا تلك، رمضاؤنا تلك، فيخلب اللب والقلب، ونسير بما مضى، ولا مغزى حيث الشراع مغلول واليراع مفلول، ونجم سهيل تخفيه غيوم ورجوم وسقوم· نتذكر الراهن، مقاتل شرس، يغل ويفل، ويحل ويزل ويدل إلى الكابحات، الجامحات، السابحات، القابعات عند المقل والأمل·· نتذكر نحن المسلوبين والمسكوبين فراغاً يأكل فراغنا، ولا يزال يسحتنا وقت مضى ووقت يجيء وما بين البين، نحن ننص ونرص ونخص ونكتظ بأحلام وأيام وأنسام تأتي ولا تأتي·· نتذكر وقتنا وحناء امرأة كانت تقتعد الباحة في الغناء، وتمد للحنين فرحتها الآتية، وتمضي هكذا حتى يتبدد العمر ويذوب تحت وهدة النسيان، ولا ينتعش إلا بعد فوات الآوان· نتذكر طفلة صغيرة وضعت الزعفران على الجيد، في استقبال العيد، والكحل يغذي العينين، ويمنح الفضاء سحنة العشق·· نتذكر كهل افترش الرمل حصيراً، في انتظار فلذات تعود بذهب العيدية، وسحب النشوة المتراقصة عند المباسم الصغيرة· نتذكر كحلاء تأرجحت فزلزلت، وأججت وخصبت الكون بالنظرة المذهلة، والصوت العذب، والضحكة الهائلة·· نتذكر في العيد وزمانه ومكانه وإنسانه والبنان المخضب والرمش المرطب بدمعة الفرح أو لمعة الترح·· نتذكر والذكرى شجرة مثمرة، نحن الذين نضع الثمرات على أغصانها، ونحن الذين نخصب أفنانها