في الكتابة اليومية لا شيء أكثر إرباكا من البحث عن فكرة طازجة تقدمها إلى القراء كرغيف خبز ساخن يتناولونه في صباحات القراءة الباكرة، سألني زوج صديقتي هل يمكن أن يكون ذلك صحيحا ؟ أن تكتبي مقالا يوميا لأكثر من عشر سنوات ؟ لم يدهشني سؤاله فقد اعتدته كغيري من كتاب الأعمدة اليومية، لكني أجبته: أنت في لبنان وتقرأ لكثير من كتاب الأعمدة اليومية ومنذ سنوات طويلة وتعرف أنها مسألة ممكنة جدا ماالغرابة في الأمر ؟ ألا يكتب أنسي الحاج وراجح خوري وإبراهيم الأمين وقافلة طويلة من الكتاب ؟ فأين الغرابة في الكتابة كل يوم ؟ كانت إجابته متوقعة ،” .. إن الكتاب في لبنان ومصر مثلا يعيشون في مجتمعات شديدة التعقيد أولا ، وأن الحدث السياسي والمعيشي فيهما مفتوح على الجدل والصراع والاختلاف وبصوت عال، ثم أن التعددية الطائفية في لبنان ومساحة الحرية الصحفية والتعددية السياسية في مصر وذهنية المؤسسات التي تحكم وتتحكم في طبيعة وهامش الحريات تجعل مهمة الكاتب أكثر سهولة من الكتاب في بلدان أخرى من الوطن العربي، حيث لا تعددية طائفية ولا وجود للأحزاب والنقابات مثلا وحيث تصير السياسة محرما لا يجوز الاقتراب منه ! ثم سألني بجدية مصطنعة : أليس كذلك ؟ قلت له: لكن القضية تحتاج إلى نقاش من نوع آخر. نحن نحمد الله على أنه لا توجد لدينا طوائف وصراعات مذهبية، “ فلا خير في أمة كثرت مذاهبها وقل فيها الدين “ كما قال جبران، و اللبنانيون أنفسهم يعتقدون بأن إحدى كوارث لبنان تكمن في طائفيته، فالطائفية ابتلاء تاريخي أكثر منه إنجاز اجتماعي نتفاخر به خاصة حين تتحول الطائفية إلى سبب مباشر لإعاقة التنمية والاحتراب والعداوات، نعم وفرت الطائفية غطاء جيدا لأشكال مختلفة من الحريات ومنها حرية الصحافة والرأي وحرية المعتقد، لكنها كأي حرية حين تذهب بعيدا في ممارساتها فإنها تنقلب على نفسها وتكون سببا في الفتن وعدم الثقة، فالكل حينها يوجه الحرية أو لنقل يلوي عنقها لمصالحه وخدمة أهدافه لتحقيق مكاسبه الشخصية على حساب مصلحة الوطن والحقيقة، ويا “ أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك “ !! مع ذلك فلا أحد ينكر بأن الحرية - الصحفية تحديدا - هي في نهاية الأمر تراكم تاريخي تأسس على ممارسة قد تبدو بسيطة وساذجة أحيانا وقد توصف بأنها قوية وواعية أحيانا أخرى، لكنها ممارسة حقيقية للحرية في نهاية الأمر، لقد احتاج هذا التراكم التاريخي دائما إلى بيئة متنامية من القوانين والأعراف والتنظيمات تحفظه أولا وتمنحه شرعيته وديمومته ثانيا ليتحول في النهاية إلى إنجاز مجتمعي بامتياز، وليس إلى هبة تأتي من أي طرف !! إن وجود التنوع الثقافي وتفاصيل الواقع المعيشي للناس، ووجود الكثير من رموز الأدب والفكر والسياسة المهتمين بقضايا المجتمع والمساهمين في عملية التنوير والنقاش بصوت واضح، ترفع بلا شك هامش الحرية وتوفر مناخا ممتازا يستقوي به الكتاب والصحفيون ، ويستقون منه موضوعاتهم وأفكار - خبزهم الساخن - أقصد مقالهم اليومي ! فجأة تذكرت جملة سمعتها في فيلم رجل الطقس: “ في حياة البالغين لا وجود للأمر السهل “ فحين نكبر تصبح كل الأمور صعبة حتى إذا أردنا شراء هدية لأبنائنا المراهقين فكيف بالكتابة في مجتمعات لم تعتد قبول الاختلاف بعد ؟!