لا أكف عن إطلاق ''قاطرة التقدم'' على حركة الترجمة، فتاريخنا العربي والتاريخ الإنساني كله يؤكد أنه لا نهضة حقيقية تبدأ إلا بعد حركة نشطة في مجال الترجمة، وأن النهضة لا تتواصل فتؤدي إلى تقدم متصاعد متزايد إلا بفضل الترجمة التي هي دافع حيوي وأساسي وحتمي من دوافع النهضة، وهي في الوقت نفسه دافع التقدم في اندفاعه الخلاق صوب وعود المستقبل الإيجابية التي لا نهاية لما يمكن أن تحققه من معجزات، ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن تندفع الحضارة العربية إلى أوج ازدهارها إلا بعد حركة نشطة في الترجمة، بدأت من زمن الوليد بن يزيد، ووصلت إلى ذروتها في زمن المأمون الذي أنشأ بيت الحكمة، وظلت صاعدة مع صعود الحضارة العربية التي أفادت - بواسطة الترجمة - من حضارات الهند وفارس والرومان وقبلها حضارة اليونان، فاستوعبت علوم الحضارات السابقة وأضافت إليها إضافات خلاقة، جعلت منها مركز الضوء في العالم ومركزه الحضاري الذي لم يتوقف عن الإشعاع إلا عندما سيطرت تيارات العزلة والانغلاق والجمود والتشدد الديني، فكان ابن رشد قبس الضوء الأخير في هذه الحضارة التي أنارت العالم بالمعرفة في الوقت الذي كانت أوروبا غارقة في غياهب الظلام والتخلف· وقد تعلمت أوروبا درس التقدم من الحضارة العربية فبدأت من حيث انتهت واستهلت عصرها الحديث بترجمة المعرفة العربية، وظلت تفيد منها إلى أن أصبحت قادرة على الإضافة التي تصاعدت باحترام التفكير العلمي وتشجيع العلماء وإفساح مجالات الحرية أمامهم، واستمرت الترجمة فاعلة، تتزايد يوماً بعد يوم، إلى أن تحققت النهضة الأوروبية التي أفسحت الأبواب لما بعدها ابتداء من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات ولا غرابة - والأمر كذلك - أن تترجم بلد مثل إسبانيا وحدها أضعاف ما يترجمه العالم العربي كله، وأن تتأصل مؤسسات الترجمة القوية الفاعلة والنشطة في كل مكان من الغرب، بحيث لا يصدر كتاب بلغة أوروبية إلا ويترجم إلى غيرها على الفور، وقد أدركت الدول الآسيوية أهمية الترجمة للنهضة فصنعت لنفسها أقوى قاطرات التقدم التي أسهمت في خلق النمور الآسيوية، ابتداء من اليابان وليس انتهاء بماليزيا وهو الدرس الذي ينبغي أن نتعلمه نحن العرب