نبع من السماء يملأ الأرض ويفرح ويعيد ترتيب أشياء القلب ويهذب الذاكرة ويغسل سجادة الحلم.. عشاق وأشواق ومغنون يتسابقون إلى رسم خريطة الوجدان والخربشة من جديد على التراب المبلل، وبعض النبت الذي يفكر في أن يطلع ويخلع نعليه ليمشي حافياً على مساحة من الضوء الخافت وفسحة من هواء طلق حلق في الفضاء كأنه الفراشات المبتهجة في يوم غائم قادم من أبعاد الكون الوسيع.. نبع من السماء يخص الأرض بالانتماء والنماء والزهو واللهو وشيء من علاقة الرطب باليابس وأشياء أخرى تتلاقح في أعماق الذين خرجوا لإحياء حفلة زفاف، لا شيء أروع منها غير انسحاب خيوط الشمس نحو التراب المرتشف رحيقاً، المخضب بما تجود به تراتب السماء.. نبع يتهجى حروف شتاء يافع ويمضي باتجاه الوديان الوادعة المحاطة بحصى الزمان ورمل المكان، والإنسان وحده الذي يقرأ الآيات ويسجل ويرفع اليدين ويقبل رضاب السماء بنشوة العاشقين، المدنفين، المنغرسين في أحشاء التراب منذ أن جفت الأرض حتى خفت ثم رطبت فأينعت جنوناً وفنوناً وحلماً يكتب على قارعة القلوب عن روعة التلاقي والتساقي وما امتلأت به المآقي من لدونة وما اغتسلت به الرموش من جزالة وفضيلة. مطر يسطر كلماته على الهضاب بلون الخضاب ويصعد العشب القشيب والشجر “سمر” الصحراء و”غافها” يبتهلان ويسجدان ويكحلان الأغصان بلون الماء ويعبقان الجذر برائحة الطهر السماوي الأنيق العريق، الرشيق، المتألق رهبة ورحابة حتى يخطف الرمل من السحابة لون الحياة وبهجتها ولهفتها وعزتها وفخارها ومجدها الصغير. أيام من زمن الأرض التليدة يوم تكون البشارة مطراً ويكون المطر رسالة شفهية تلامس الشفاه وتغدق على الخدود الندية بعطر الحياة وسر الوجود وأصل الخلود وماء يجود ويسود ويعود بالخير على الناس أجمعين. أيام تعيد للسدرة اليابسة مجدها وأحلامها في رصد العقد النضيد من نبق العذوبة وفرحة الصغار وهم يمضغون لذة العناقيد ساعة الجمع والالتقاط. أيام المطر يبتسم البشر والشجر والحجر وتستعيد الجبال طهرها المقدس وسندس الرجل البدوي الباحث عن وعيه عند القمم العالية وشيمة السفوح المتوالية بسطوره في صدر كتاب لا تغيب عنه النضارة وأحلام الذين سكنوا في المأوى النائي عن صخب وخطب.. أيام المطر كل الأشياء تتفتح وتتنقح وترجح الفرحة في ميدان حسنات اليوم البهيج.. أيام المطر ربيع في القلوب يملأ الدروب بلا كدر أو حذر.