اسندي رأسك المتعب على صدري يا أمي واسنديني. رأسك المملوء بغبار السنين وخبب النوق وحداء الصحارى. اسندي رأسك وحدثيني عن صوتك المغناج يرن في غزل الصحارى، عن ذوب الليل البارد في أوردة العشاق. صوتك الراعش بالاخضرار الذي تحضنه الريح وتنثره على وحشة القوافل في ضجيج القيظ، صوتك الذي يردده الحداء فيرطب الليل ويزهر النهار. غني لي يا أمي غني: “قولوا لبوي شق ثوبي نهدي، يا طول ليلي من رقادي وحدي”. أكملي يا أمي واكتملي.. لتنفجر الأفلاج في عيون الرمل ، لينتصب “الصفصاف والسمر” يذود غضب الرمال وحرائق الهجير. لتستريح القوافل اللاهثة نحو أحضان “مسافي” لتغتسل من غبار المدن و”ثبج” البحار في أحضان البريمي. غني يا أمي.. أعيدي لي الطفولة وغفوتها. أرقديني على عذوبة حبك، دعي الحزن يصير بلون الفراشات، بنكهة العسل. غني طويلاً للأحبة الذين يسافرون في الوحشة ويهاجرون في الرحيل: “مررت على القنطرة والقنطرة تيري/ قلت يالقنطرة مروا عليج أهلي؟/ مرت خشبهم وتمت دميعتي تيري/ تيري كما الغاف والغفغاف والسدر”. والسدر يطرح “ألرازقي” حين يعبر اشتعال حنجرتك محملاً بالحنين والخصب إلى رحم الوديان. غني يا أمي وهزيني على سرير حضنك. أنا طفلة عرفت مذاق النوم وقزح الأحلام فوق حضنك وتحت كم ثوبك الواسع كالمحيط. أنت المحيط يا أمي وأنا أبدأ راكضة، علمتني العوم وفتحت ثغورك لجنون مراكبي. غني لي وهدهديني: “حبيتج يا بنيتي محبة الأهل والغنى ومحبة الضنى ما دونها دون/ حبيتج يا بنيتي محبة داخل المستداخل ومغزرلها ما لا تراه لعيون/ حبيتج يا بنيتي محبة تدعي الملح سكّر، وتدعي عويدات الثمام قرون”. لتكن محبتك الصواري وذراعاك أشرعتي وصوتك عذب الرياح. *** غني يا أمي واسندي رأسك المتعب على صدري.. دعيني أحصي عروق الفضة في مدائن شعرك الليلي العاشق وامسح دمعك يا أمي فمساحة اليابسة ضيقة ودمعك الطوفان. غطيني بكم ثوبك المطرز بالمحبة, المندى “بعود” التضحية وعنبر الحنان. رشي ماء وردك على وجهي كي تستفيق في عيوني المدن المزهوة برنين الظلال وأجراس الطفولة. آه من القدرة في أصابعك يا أمي. بين أصابعك يضحك الأطفال وتحبل المواسم. أيتها الأصابع التي تخلق الخبز والقهوة والرطب، أعيدي خلقي وتكويني. أعيدي خلقي وكونيني: من الضياء كي اتحد بالمياه والتراب فألد الأجنة والبصائر والثمر. من الليل كي يستريح المتعبون على صدري. من الربيع كي أزهر الأعراس في الحقول. من الشتاء كي أحرض العشاق للعناق. من الأرحام كي ابذر الأطفال والسنابل. من الجهل كي أجن بالمعرفة. من المعرفة كي أحيط بما يحيط. من النار كي أشعل المصابيح والقصائد. من الطين كي احضن الجذور والانساغ. من الحق كي أعيد للأرض تضاريسها الجميلة. أيتها المرأة الكلية القدرة يا أمي غني لي.. غني لي واحتضنيني!!