بعد أن غدا الإسقاط الظاهراتي للشعور والإدراك على المكان عادة ثقافية وطريقا للكتابة بدأ نوع جديد من أدب الرحلة يتأسس في الكتابة العربية لا يكتفي بالحديث جغرافيا وسياحيا بل صار للذات دورها في تشكيل المكان والحفر في دلالاته النفسية والثقافية. وكتاب “يوميات المدن: بغداد باريس” للكاتبة العراقية لطفية الدليمي (عمان 2009) يؤكد ذلك الاتجاه، فالذات هي التي تعيد هيكلة المدن وترسم خرائطها وترصد نبضها مازجة الذات بالمكان وبزمن التذكر والرصد فيغدو لتلك الأماكن في بغداد وباريس ثلاثة أبعاد: طبيعتها الخارجية وتشكلها عبر الذات والزمن المسقط عليهما معا. لكل واحدة من مدن لطفية الدليمي وجود خاص ومذاق فهو موجود بسياق ما يحف به من وضع بشري منظور إليه كما في الرسم الحديث من زاوية التأثر والانطباع تجيد لطفية الدليمي اختيارها بخبرتها السردية. مكابدات التيه في فندق عدن أول ما يطالع القارئ في يوميات مدن الكاتبة التي لم تتوقف عند بغداد وباريس كما يصرح العنوان الجانبي، بل تعدتها إلى عمّان التي اتخذتها مستقرا بعد سيل المكابدات الذاتية. وزيورخ (القصيدة التي تسمى مدينة) وبيرن حيث مركز بول كلي، وقبرص (الوليمة الأسطورية) ومدنها: نيقوسيا وليماسول ولارنكا، وثمة سيل من المفكرين والشعراء تلتقيهم عبر تذكراتها فتغدو يومياتها ثقافية ورؤيتها للمدن من هذه الزاوية وبلغتها التي تجعل المكان شعرا، إنها تمنح اللحظة والمعاينة البصرية وجودا لغويا جاذبا يعيش القارئ مع بلاغتها انفعال الكاتبة بما رأت وعاشت. كثير من المشاهدات ستظل شهادة ثقافية بامتياز، لكنها لن تخفي عناء الكاتبة ومكابدتها في الحصول على إقامة في مدن أرادت أن تستقر فيها بعد أن تهددت حياتها في وطنها بسبب العنف والإرهاب والاحتلال ودمار أجزاء من بيتها، وفقدان الأمن تحت سقفه، لكنها ترصد تلك اللحظات وتطوف في استيهامات كالحلم واسترجاعات موجعة لدقائق مكانها الخاص: غرفتها حيث تكتب متوقعة السطو والقتل أو في أماكن مؤقتة ترتبها لتنجز رغبتها التي لا تهدأ بأن تدوّن كل شيء: كيف استيقظ البغداديون ليروا ذات يوم غابر تماثيل معهد الفنون الجميلة بحي المنصور وقد كسرت بعد أيام من تغطية عريها، لتحل محلها تماثيل قادة مستنزلين من ذاكرة الانتصارات الوهمية والحروب الدونكيشوتية، ولا تنسى أن تنظر بعيني أنثى ترى الكراهية لها في عيون السلفيين: رجل بثوب قصير ولحية كثة يأمرها متوعدا ًبالحشمة أو الموت، وتدوّن يوميات الهلع والدمار وأصوات الانفجارات (لا شيء أوحش من وحدة امرأة في بلاد القتل والمقابر والأشلاء) وحيث البقاء حية هي صدفة محض، والموت متوقع ومشهد صباحي لكنه لا يجعلها تكف عن ممارسة حياتها. المدن في الكتاب حشد من الأسماء والوقائع الثقافية لكن حضور الذات تعطي لذلك السرد خصوصية وتميزا تبرران مطالعته بمتعة وألم معا.