الراجح أن الروائي الفرنسي إدوارد لوفي كان قد عقد العزم على أن يضع حدّا لحياته فيما كان يكتب روايته الأخيرة “الانتحار”. والراجح أيضا أنه كان قد اختار توقيت رحيله حين لهج بجملته الشهيرة “رجائي إن وجد شيء في الجهة الأخرى، جهة العدم، أن يكون أفضل مما هو موجود في الحياة الدنيا”. إن تخيّل لحظة الموت والتدخّل فيما سيعقبها لا يأتي من قبيل الاتّفاق في رواية إدوارد لوفي “الانتحار”، بل يرد في شكل تحدٍّ للموت نفسه وعبور بالذات إلى ما بعد حتفها. لكأن الكاتب يتدخّل في الوقائع التي ستلي موته، ويسيطر على هذه اللحظة الجلل، فيحوّلها إلى موضوع. وتحويلها إلى موضوع هو الذي يسمح بالسّيطرة عليها. يحدّث الرواي نفسه في هذه الرواية هكذا: “إن انتحارك لم يسبق بمحاولات انتحار فاشلة. إنك لا تخشى الموت. لقد تخطيت الموت، وأنت حقا لا ترغب فيه: أنّى للمرء أن يرغب في شيء لا يدرك كنهه أو يشتهي ما لا يعرف!؟ أنت لا تجحد الحياة، لكنك مأخوذ بالمجهول”. لم يجد الناشر الفرنسي أوكتشاكوفسكي لورانس تفسيرا لحدث انتحار الروائي لوفي وهو لم يتخطّ الثانية والأربعين من العمر. فصرح قائلا: “لقد سلّمني الرواية عندما تلاقينا يوم 5 أكتوبر في مكتبي. خابرته في اليوم الثامن من الشهر نفسه وأعلمته أنني معجب أيّما إعجاب بروايته “الانتحار” واتفقنا على اللقاء ثانية يوم 18 أكتوبر لنناقش تفاصيل النشر. لكنه وضع حدّا لحياته يوم 15 أكتوبر”. لم يكن الروائي الذي اختار حتفه رغبة منه في تحقيق إطلالة على ما وراء الحياة، مأخوذا بالسرد والحكي فحسب، بل كان مفتونا بالتصوير الفوتوغرافي، لذلك شدّ الرحال إلى أميركا وعاد منها بحشد من الصور لأماكن رأى أنها تجسّد العمق الأميركي. ومنها توجه إلى برلين وستوكهولم وباريس. أما بغداد فقصدها وهي تتقد نارا، فخطف صورا تجسّد فظاظة ما يجري. لم تكن بغداد في ذهنه مدينة، بل رمزا للأفول الكوني يتراءى مكثفا في المكان. والثابت أن إدوارد لوفي كان يعتبر الكتابة بمثابة بحث ممضّ عن الطريق التي تقود المرء إلى ذاته. لذلك اختار لروايته الأولى عنوانا يترجم الرغبة في العيش وغنم اللذات وهو: “الحياة، وصفة استعمال”، وافتتح هذه الرواية بجملة تكشف أنه يقيم على حافة الهاوية. نقرأ: “عندما كنت مراهقا كنت أعتقد أن كتابة رواية تحمل عنوان “الحياة، وصفة استعمال” ستعينني على الاستمرار في الحياة. أما كتابة رواية بعنوان “الانتحار” فستساعدني على الموت”. هكذا هي الكتابة لدى إدوارد لوفي. إنها فعل وجود. إنها العتبة المدوّخة الواصلة بين الهنا والهناك، بين الحياة والعدم. لذلك كانت آخر جملة لهج بها الراوي في رواية “الانتحار” معبّرة عن هذا الوعي الفاجع. يقول الراوي: “إن السعادة قد سبقتني، والحزن يتعقّب خطوي، والموت ينتظرني”.