حينما أرى البحر بعد غياب طويل داخل أحشاء المدينة المكتظة بالزحام والبشر والتلوث والقسوة، أشعر بأنني أسقط أمام الحنين كطفلة فاجأها سيل جارف، تحضر طفولتي كلها دفعة واحدة، يظهر بيتنا من الغيب، ذلك البيت الذي كان يجاور البحر في الستينات، وتسهر سطوحه طيلة الليل تستمع لوشوشات القمر وأصداف الشاطئ، حين ألمح بقايا أصداف وقواقع على الشاطئ•• ألمح بحاراً وليس بحراً يتدفق من داخلي غامراً كل شيء، أشعر بأنني أتنزه على ضفاف محيط، وألعب بكل القوارب التي صنعها الصيادون طيلة هذه القرون! أمي حبيبة أخرى للبحر، حين تشتاق إليه في هذا العمر، في هذه المدن يملؤها البكاء وتهرع إليه وفي يدها وقلبها عصا الأيام تلوح بها في وجهه، كما أم تهز العصا في وجه طفلها الجميل الذي حرمها نعمة الهدوء، وأورثها لعنة القلق عليه •• فيا لعنة القلق متى تغادرين أرض القلب؟ متى سيشرق البحر في مدينتي كالنهار كل يوم كما كان ؟ متى سيحق لأمي أن ترى بحرها كل يوم كما كانت تفعل يوم كان بيتنا يجاور البحر والأصداف ورمل الشاطئ وقوارب الصيادين ؟ حينما أسمع صوت أبي من خلف الرحيل، أظن أنني أسمع صوت السماء، أبي كان رجلاً غريباً، كان صامتاً على الدوام، حزيناً من غير حديث، وطيباً كما لم يحدث أن كان رجلاً طيباً في أي زمان، حين أشم الطيبة في أحد يحضر هو بكل بساطته• وحين أطلب له الرحمة تنهمر الفراشات الملونة من بين أصابع يدي، كان بسيطاً كأحدنا ، وكان صامتاً كجبل ، ووحيداً، رحل من دون أن أعرف سر حزنه وصمته، رحل من دون أن أسأله ما الذي يمكن أن يجعله سعيداً ولو لمرة واحدة، رحل وأورثني حزنه الذاهب في داخلي بلا قرار، وبلا سبب ! حينما أزور جدتي ، في سنها المتقدّمة هذه، أعرف شيئاً ضئيلاً من حكمة الخالق، أعرف أن امتداد العمر حتى مشارفة التسعين عبء تنوء به الجبال•• وجدتي هذه متناهية الوهن كقبضة ياسمين لا يمكنها احتمال هذا العمر، لكنها تبدو مبتسمة دائماً -عكس والدي- فأهمس في داخلي: ألأنها أم؟ ألأنها امرأة عربية من زمن الشظف والفقر؟ ألأنها جدتي؟ ربما لأنها طيبة على الدوام، وربما لأنها كانت توزع الحلوى على الصغار دائماً ! حين أصاب بدوار الشوق لمن أحب، أتذكر كل الذين رحلوا في عمري ، أتذكر فيروز إذ تغني ...... “ كل الذين أحبهم سرقوا رقادي واستراحوا “.. وأقول أيها الشوق اهدأ فليس لي سوى قلب وقلبي ما عاد يحتمل مزيداً من الشوق لراحلين جدد يصرون إذ يأتون من قلب الغيب فجأة أن يرحلوا إلى البعيد دون سابق موعد، وعبثاً أرشو الفراق بوعود لقاءات آتية ، عبثاً يصدق القلب أمنيات اللقاء .. و أشعر حين يغلبني الشوق للصحب الذين رحلوا أنني أرحل داخل بئر .. لأخبئ العمر للآتي عله لا يرحل.