أتمشّى أنا وصديقي على الشاطئ. هو ينظر إلى الأشياء من حولنا بعينين اثنتين، وأنا أنظر إليها بعين ثالثة. وحوارنا يتناول ما يجري حولنا من أمور، في امتداد جسد البحر كوحشٍ جميل أمام أقدامنا، وهو يخور أو يئنّ أنيناً موجعاً، حتى فساد هواء المدينة، وكتابة سطور العابرين على جدرانها، ونشر صورهم فوقها. أمس، وبينما كُنّا في سيرنا الصباحي المبكّر، وقد هدأ البحر وتطامن كأنه ينام، رافقنا على امتداد الشاطئ كلب وحيد، صديقي ينفر من الكلاب عادةً، وأنا مثله، ولكنْ: حدثَ ما لم يكن في الحسبان، كنت أقول له إن حواسنّا مأخوذة منا، ولابد لنا من استعادتها، وكنت أعني انتباهتنا الخاصة لما يجري حولنا، حاولت أن أشرح له ما أعنيه، فيما بدا مشغولاً بطرد الكلب الذي بدأ يدنو منا قليلاً قليلاً وكأنه يرغب في مرافقتنا. زجره صديقي بصوتٍ نافر ورماه بحجر، وتناول عصا وحاول ضربه بها. ابتعد الكلب قليلاً، وعاد ليرافقنا عن بعد. قلت لصديقي: خلّ عنكَ العصا، ودعِ الكلبَ لي. أومأت له بيدي فأنِس بي واقترب مني، أومأت له أن ينطلق فانطلق، أن يعود فعاد، ثم أخذ يدور على ذاته ويلعب كبهلوان مدرّب، وانعقدت بيننا ألفة ومودّة.. وهكذا، وكأنه يقوم بألعابه من أجلي، من أجلي وحدي دون صديقي، الذي كان قد ابتعد عنه ومضى في اتجاهٍ آخر. ثم فجأة.. وبعد الجري والبخترة والدوران، رأيت الكلب يقتحم شاطئ البحر، ويخوض في المياه الهادئة القريبة خوضاً خاصاً وراقصاً، بعد أن فرغ من اللعب على الرمال، يعلو ويهبط ويدور كزوبعة صغيرة موسيقية في الماء، يلوي عنقه على جسمه، وساقيه حتى عنقه، ويتقلّب كلولب بشري، وكأنه راقصة صغيرة ترقص رقصة الفراشة في البخترة، أو يتحرك ثابتاً في المياه كرقصة البجع.. يبلّ رأسه وينفض أذنيه وذيله.. وكان يفعل كل ذلك وهو ينظر إليّ وكأنه يقول لي: هذا كله من أجلك.