451 فهرنهايت هي درجة الحرارة التي يحترق فيها الورق وتتحول أجزاؤه وما سُطّر على بياضه من أفكار ورؤى وإبداع رمادا أو سوادا أصم لا ينبئ عما اختزنته من معارف وما كان مقدرا لها أن تفعل في تغيير مصير البشرية ونمط حياة البشر· ومن هذه الحقيقة العلمية اشتق راي برادبري أحداث روايته ''451 فهرنهايت'' التي دُرست على أنها ضرب من الفانتازيا أو الخيال العلمي الاستباقي لما يمكن أن تؤول إليه حياة الكتب في عالم مستبد يحارب المعرفة ويعدها مفسدة وانحرافا· ويستبدل بها تفسيراته وتصوراته الخرافية عن الكون والحياة والأحياء· ولكن وقائع التاريخ الحديث والمعاصر جعلت أحداث الرواية أقرب إلى الواقع فقد تكررت محارق الكتب الرمزية بنيران مختلفة وبأيدي مشعلين مختلفي الهويات والدوافع والمعتقدات، وصار لمحو وجود الكتب طرق لا تقل خطورة عن النار وإن بدت قانونية أحيانا بعد أن أكسبها البشر مبررات حماية المجتمع أو النظام· وهكذا تغير منظور قراءة الرواية وأضحت تتم على أنها استخدام للفكرة الخيالية ولكن لمقاومة المظالم والحجر الواقع على الإنسان، فتمدنا مخيلة الكاتب بفكر معاكس يهوّل ما يمكن أن تصنعه الديكتاتوريات لمقاومة الفكر، وهو ما تجسده الرواية مصورة ومدينةً ما كانت تفعله محاكم التفتيش وما أعادته المكارثية بصدد الكتب وحرقها باحتفال علني، وتجريم مقتنيها، فيسبب كتاب تشارلز ديكنز ''ديفد كوبر فيلد'' تعاطف رجل الإطفاء المكلف بإطعام صفحاتها للنار مع مقتنيته التي أهدته الرواية عرفانا لرفضه حرقه في مهرجان مباشر على شاشات التلفزيون التي أدمن عليها الناس بديلا للكتب وحتى زوجته تتلذذ بالمشهد، ثم يهرب الإطفائي بعد أن يقتل رئيسه إلى المكان الذي يتجمع فيه أنصار الكتب لإحياء الكتاب رمزيا، فيقوم المجتمعون بإطلاق أسماء الكتب على شخصياتهم تخليدا لها ومحافظة على وجودها الذي يساوي لديهم حياتهم نفسها· إن ما تفعله الرقابة في معارض الكتب وما تصادره سلطات المطارات والمنافذ وما يعطي الأفراد لأنفسهم من حقوق الحسبة أو الترافع نيابة عن الجماعة ضد الكتب وكتابها ليس إلا تطويرا وحشيا وتكييفا زائفا لنيران الحرائق التي أرعبت الذاكرة البشرية، لاسيما وأن بعضها طال كتب العلوم الطبيعية والفلسفة أيضا فضلا على التأويلات الخاطئة والجاهلة للملفوظات الأدبية وحشرها في المحرمات والممنوعات أو المحظورات· ولعل من نعم التكنولوجيا الحديثة وانتشارها الفضائي وعبورها الحدود دون إذن رسمي أنها يسرت الكتاب التفافا على المصائر المدبرة له بأيدي مشعلي الحرائق ووسائلهم الجهنمية· الفيلم الذي تحول عن الرواية يؤكد ذلك المصير المأساوي للكتب في درجة احتراق ورقها وانبعاث الدخان من جثثها ولكنه يدعم الأمل الذي جعلته البشرية واقعا متغلبة على النيران المحتملة والحرائق الممكنة فانبعثت الحروف من رماد احتراقها دوما كالعنقاء···