أهم ما في رواية الفلسطيني (البريطاني الجنسية) ربعي المدهون “السيدة من تل أبيب” أنها كسرت الانطباع الذي ولّده عمله الأول “طعم الفراق”. ففيه يروي المدهون سيرة ذاتية ملحمية تختزن في فصولها وأحداثها مأساة شعب كامل، بدأت مع النكبة عام 1948، وانتهت مع انتهاء زمن السرد في أعقاب أحداث أيلول 1970. وبما تنطوي عليه الرواية/ السيرة فإن صاحبها كاد يقول (أو قال شفاهية فعلا): هذا أنا، فهل بلّغت. بدا وكأنه يريد أن يغادر (تلك القضية) التي استهلكت منه العمر كله، على الرغم من وعده (الشفاهي أيضا) بجزء ثان يروي وقائع ما بعد أيلول. في “السيدة من تل أبيب” يعود المؤلف إلى (تلك القضية). يعود هنا بالمعنى الحرفي. فالرواية عن مؤلف فلسطيني (بريطاني الجنسية) يعود إلى قطاع غزة بعد غيبة استمرت أكثر من ثلاثة عقود. عودة بقدر ما تدخل صاحبها في كنف الأم والأهل وأصدقاء الطفولة وأماكنها، فإنها تجعله يختبر، فعليا، عودة بطل روايته الرابعة، من ألمانيا إلى غزة بحثا عن حبيبة من زمن ما قبل الاحتلال. هاتان العودتان تدفع ربعي المدهون إلى مستويين من السرد. رحلة مؤلفه، ورحلة بطله. تتداخل الرحلتان، ويتداخل السرد، مع قدرة فائقة للكاتب على ضبط إيقاعه. يقول ربعي المدهون روائيا ما تعجز السياسة عن تفصيله في يومياتها المكرورة منذ ستين عاما. فالسياسة تمنح (تلك القضية) وجهين لا ثالث لهما: البحث عن سلام يبدو مستحيلا مع العدو، أو مقارعة العدو بالسلاح حتى تحرير الأرض شبرا شبرا من النهر حتى البحر. في “السيدة من تل أبيب” يكشف المؤلف عما وراء هذين الوجهين. عن مكونات “تصنع” البشر، هنا وهناك، وتبني بينهم المستحيلات. ففي الطائرة التي أقلته إلى تل أبيب يتجاور بطل المدهون مع ممثلة إسرائيلية مشهورة. يتحاوران. يتجاوزان المسبقات التي تحكم علاقة فلسطيني وإسرائيلية. يتبادلان ملامحهما الإنسانية. يتفقان على التواصل، من غير أن يعرف هو الجانب العربي في شخصيتها. فهي على علاقة عاطفية مع الجنرال نور الدين ابن زعيم عربي، ومرشح لخلافته. لكن لقاء الممثلة والمؤلف المقرر في لندن، لكي تطلعه على خبر يمثل له سبقا صحفيا، لن يتم. فقد اغتيلت الممثلة في شقة الحبيب العربي.. وتركت وراءها تساؤلات معقدة عمن قتلها: رجال العشيق، أم عملاء “الموساد”؟ وأيا من كان القاتل، فالموت كان نتيجة حتمية لاستحالة كسر المستحيلات. يحشد المدهون في فصول الرواية، كلاما ومشاهد، مما يفعله الناس ويقولونه. تبدو كتابته، وكأنها تحقيق صحفي أعد بعناية، يصور مجريات الأحداث في “البلاد”، التسمية التي يطلقها الفلسطينيون على فلسطينهم. يكتب بدقة لاهثة عن تجربة عودة فلسطيني مهجّر إلى بلده عبر مطار بن جوريون ومواجهته لإجراءات الأمن فيه، وبعده في معبر “إيريتز”. يلملم عن ألسنة من يلتقيهم حكاياتهم، وصراعاتهم، وشكاويهم من تجاوزات المنظمات، وفساد السلطة، وقهر إسرائيل. لكن المدهون يبرع في تضفير كل ذلك، العادي، اليومي، في إطار عمل روائي يريد منه كسر المستحيلات، فتكسره. فالاحتلال هو الاحتلال. والشعب المشرد سوف يظل حقلا حيويا للقصف والقنص وطائرات “الأباتشي” والرصاص الطائش، وسلطة المعابر الخانقة. والفلسطيني المهاجر، لن تحميه جنسيته الأوروبية من تنكيل بمستوى ال V.I.P. عادل علي adelk58@hotmail.com