البحر شيخ عتيق.. وأمواجه التي يرمي بها على الشاطئ، وتتكسّر على الصخور، هي ذؤابات شابت للشيخ البحر. وأفكّر أحياناً في أمر البحر وأقول إنه آن له أن يعود شاباً.. آن له أن يثور ويتطرّف ويكون نزقاً.. آن للبحر أن يغضب وينبض ويغسل أدراننا، نحن العائشين على شواطئه وموائده من ملايين السنوات.. فمن أيام نوح، حتى هذه الأيام، لم يحصل طوفان شامل. لماذا لا يحصل الطوفان الآن؟ وأفكّر أحياناً في البحر، وأكون أفكّر في الشعر. ويشكل عليّ الأمر فأخلط هذا بذاك وذاك بهذا.. فأوزان الشعر في العربية هي عينها بحور الشعر الطويل والمديد والوافر والبسيط والكامل والمنسرح والسريع والخفيف.. وهلمجراً إلى آخر الأسماء والأوزان. وأسأل نفسي لماذا سميت أوزان الشعر بحوراً؟ ألأنها واسعة كالبحار؟ ولكن هل البحور كالبحار؟ وهل بحر الشعر يستوعب السماوات والأرضين كبحر الوجود؟ وهل التسمية عائدة إلى إيقاع البحر وموسيقاه، فللشعر أيضاً كما للبحر إيقاعه وموسيقاه؟ .. ثم إن العرب صحراويون وليسوا بحريين. وقد أوردوا فيما أوردوه، أن بيت الشعر (بالشين المكسورة) معطوف على بيت الشعر (بالشين المفتوحة): فهنا بيت وهناك بيت، وهنا أسباب وهناك أسباب، وهنا أوتاد وهناك أوتاد، ولبيت الشعر صدر وعجز.. فكيف جمع العرب في تسميتهم لبحور الشعر أسباب البر وأسباب البحر معاً؟ هذه الأسئلة، وسواها، تراودني، فيما أسير على الشواطئ الطويلة وحدي. الشواطئ الطويلة التي هي أطول من لسان العرب. ـ وماذا يقول ابن منظور في المسألة؟ يقول: “يجمع البحر على أبحر وبحور وبحار.. والبحور كالبحار، أما الأبحر فجمع قلة”. ـ ولماذا سمي بحر الشعر بهذا الاسم؟ “لأنه أشبه بالبحر الذي لا يتناهى بما يغترف منه، في كونه يوزن به ما لا يتناهى من الشعر”. هكذا إذاً.. وفي احتكام للغة، فإن ما يربط ما بين الشعر والبحر، هو اللانهاية. فكما أن البحر لا ينتهي، فإن الشعر لا ينتهي.