لا أظنني أحببت واحدا من الأدباء العرب مثلما أحببت الطيب صالح. عرفته شخصيا منذ التسعينيات، حين كنت أمينا للمجلس الأعلى للثقافة، وكان يسعدني، دائما، بتلبية دعواتي لحضور مؤتمرات المجلس، وكنت أحب فيه شهامته ووفائه لأصدقائه، ومنهم رجاء النقاش، وكان من أوائل من كتبوا عن “موسم الهجرة إلى الشمال” ووصف صاحبها بأنه عبقرية صاعدة. وعلى الرغم من مرور سنوات على ما كتبه النقاش، وعلى الرغم من أن عشرات النقاد كتبوا عن الطيب صالح فقد ظل وفيا لرجاء النقاش، عارفا بجميل صنعه ولذلك كنت أراه أحرص ما يكون على رؤيته حين يزور القاهرة، وما أكثر ما كان يفعل، وما أكثر ما كنا ندعوه، فقد كان يرى مصر وطنه الذي يمتد جنوبا إلى السودان، ويحب المصريين كما لو كانوا أهله في السودان. وكنت ألاحظ أن “سي الطيب” كما تعود أصدقاؤه المقربون على مناداته لا يحب حقا وصدقا، رغم كثرة مجاملاته، إلا من كان يحمل صفة “شيخ عرب” وهي الصفة التي لم يكن يطلقها إلا على من يراه أهلا لها بالكرم والشهامة والنخوة والوفاء ومد يد العون للمحتاجين، وقد كان هو نفسه “شيخ عرب” بيته في إنجلترا مفتوح لمن لا بيت له ولا فندق، ومكتبه في قطر كان مهوى أفئدة الذاهبين إلى الخليج من الكتّاب والمثقفين. وقد ظل يحرص على قضاء كل رمضان في القاهرة، كي يقضي لياليه مع القريبين إليه من أحبابه الذين كانوا يقيمون في القاهرة وقد عرفت منهم سفير السودان الأسبق الذي كان “شيخ عرب” مثل الطيب صالح صديق عمره، وقد ذهبت إلى بيته في المعادي مرة، ومعنا صحبة الطيب صالح، ومنهم جلال أمين وآخرون، وقضينا وقتا ممتعا في الجدال الذي كان يحبه الطيب صالح، خصوصا إذا كان النقاش في أحوال الثقافة والمثقفين. وكان عف اللسان، لم أسمعه مرة واحدا، يتناول أحدا بسوء، أو يقع في شراك تصديق إشاعة، ولا أنسى سهرة رمضانية في بيتي، جمعت له فيها من يحب، وكان جمال الغيطاني والقعيد في صحبتنا مرة، وأحمد حجازي في صحبتنا أخرى، وكان الطيب معجبا بقصيدته التي تمضي على طريقة الأراجيز الطردية، ولكنها كانت “طردية” من نوع عصري، وأذكر أننا قضينا ساعتين، في النقاش حول مراميها الرمزية، وتفاصيلها التقنية، وكان حجازي يشارك في النقاش، مستغرقا في الاستماع إلى الخواطر التي كان يلقيها سي الطيب، وهو يحاورني على طريقة الرواقية. كم كنت أحب أن أذهب إلى الخرطوم وإلى لندن لأشارك في تكريمه بعد وفاته ولكن قلبي العليل منعني من ذلك، وقد أحزنني أنني لم أتمكن للسبب نفسه من تلبية دعوة الصديق محمد بن عيسى للاحتفاء بالطيب صالح ومحمود درويش، وقد أخبرني بن عيسى أنه خصص نصبا لكل منهما فيما جعله حديقة للخالدين من المبدعين..