كنت أرى، ولا أزال، أن شعر محمود درويش قد تغير بعد العملية الثانية التي أُجريت له في قلبه في أحد مستشفيات باريس، وكانت هذه العملية أخطر من الأولى، فقد واجه فيها الموت حقاً، وخرج منها بمعجزة من معجزات الطب، بعد إرادة الله بالطبع، فبدا لنفسه كما لو كان قد عبر نهر الموت إلى الشاطئ الآخر، لكنه عاد إلى شاطئ الحياة، بعد أن رأى شاطئ الموت ولامسه وكانت هذه التجربة الرهيبة ذات أثر بالغ في أعماقه، جعلته يعيد النظر إلى كل شيء، الوطن، الحياة، الموت، الشعر· هكذا، أخذ شعره يتحول ويتغير فارق المطولات التي اعتاد أن يكتبها، انتقل من القصيدة إلى النثر، تعلم حكمة التوحيدي عن القصيدة التي يغدو إيقاعها في بساطة النثر، وعرف أسرار الصور الرمزية المكثفة التي لا تمتد أو تتعقد، بل يكون إيجازها سر جمالها الذي يقترن بحضورها الذي لا يكف عن توليد المعاني، أدرك أن أجمل الشعر هو ما يكتب في حضرة الغياب ومواجهته، استبدل بالعالم الخارجي للقصيدة العالم الداخلي الذي يجعل من قلبه مرآة تنعكس عليها صور الوجود في حضوره دائم التبدل، ظلت فلسطين في القلب العليل، لكنها امتزجت بمأساة الوجود، وتحولت إلى فضاء حميم كزهر اللوز أو أبعد، خفت صوت القصيدة إلى أبعد حد، مجاوزة حتى ذلك الشعر المهموس الذي تحدث عنه محمد مندور الذي كان ناقداً جهير الصوت منذ عقود خلت، صار محمود يسترجع صور الطفولة شجرة الزيتون، أمه، أباه، الفرس الذي شج جبينه يوماً فعلم القلب أن يحترس باختصار، أصبح قادراً على أن يقول: ''في بيت أمي صورتي ترنو إليّ ولا تكف عن السؤال أأنت، يا ضيفي، أنا؟ هل كنت في العشرين من عمري بلا نظارة طبية وبلا حقائب''· أصبح شعر محمود كأنه مرآة، تتطلع فيها الروح أكثر فأكثر، وتتأملها النفس أعمق وأعمق، وأصبحت الذات الشاعرة تبدو كأنها منقسمة على نفسها، تتطلع إلى حضورها الذي هو إياها، فتغدو ذاتاً وموضوعاً، ناظراً ومنظوراً إليه، رائياً ومرئياً، فازدوج ضمير الخطاب، وأصبح ضمير الأنا اثنين: ''وأنا المسافر داخلي وأنا المحاصر بالثنائيات لكن الحياة جديرة بغموضها''· هكذا، أدرك محمود درويش، في ذرى تجليات الرؤيا، أنه من أصغر الأشياء تولد أكبر الأفكار، وأن الإيقاع لا يأتي من الكلمات، وإنما من وحدة الروح والقلب والحدس، في ليل طويل، لا شيء فيه سوى ضوء التلاشي الذي يغدو حضوراً كالغياب، أو غياباً كالحضور·