“بين الصواب والخطأ، هناك فسحة هي التي ينبغي أن نلتقي في رحابها”. كل كائن على هذه البسيطة المعقّدة والمركبّة أيما تركيب، يدعي “الحقيقة” والصواب والسلوك الصحيح، إن لم يكن الأصح والأطهر والأنقى.. الكل يدعي الحقيقة، طريدة الجميع وحلمهم وضحيتهم في الوقت نفسه، الكل يدعي الغرام والوصل بهذه الغائبة المتوارية على مدار الأزمان.. الكل يدعي ويلهج باسمها، السلطات جميعها، من رجال الدين والسلطة السياسيّة، والمعارضة التي تطمح أن تكون سلطة أخرى، أو هي منطقة ما من مناطق السلطة القائمة في كل مكان.. الجماعات والأفراد، الجهلة والعلماء، كل بمستواه ونسبة عمرانه ـ حسب ابن خلدون ـ الصادقون في بحثهم، وأولئك الكذبة الذين يعلو صوتهم فوق كل الأصوات.. وهم الصنف الأكثر ادعاء في هذا المجال ـ حسب مقولة شكسبير.. العربة الفارغة هي التي تُصدر الضجيج والأصوات، والمليئة تمضي بصمت.. نشاهد ونسمع، عبر المنابر المختلفة، الضاربة في التاريخ أو تلك التي أوجدتها الحداثة والتكنولوجيا، بمختلف أشكالها وأنواعها، ذلك الضجيج، وتلك الألسن التي تبتلع “الحقائق” وتدحرجها كالضفادع والجرذان في مشهد قلّ نظيره حتى في القصص الأكثر تخييلاً وخرافة.. الحقيقة، الحقيقة، أنا، نحن، من يمتلك الحقيقة وناصية الصواب والآخر، الآخر العدو دائماً، هو المقذوف في هوة الأخطاء السحيقة، هو المسحوب من أذنه ممرّغاً في الوحل والخطيئة.. عليه (الآخر) أن ينسحب من الحَلَبة ويستسلم، حتى لو كان هذا الآخر بالغ القوة والجبروت والمعرفة، التي هي نسبية باستمرار لديه منذ أن كسر أسطورة، اليقين والمطلق في الحياة والتاريخ، الذي يدعيه ملاّك الحقيقة ومطلق الصواب، حتى وهم على ما عليه من ضعف وهوان وانهيار.. يتحارب ملاّك الحقيقة العليا التي لا يطالها الشك في شيء، ويفني بعضهم البعض، وهم على الأرجح من يحملون دعاوى القضيّة المشتركة والمذهب الفكري المشترك، حيث يتهم كل فريق الآخر بالانحراف والتراجع عن الصراط السوي الذي يقود إلى الجنّة الموعودة، على هذه الأرض الثكلى بالخطابات والثرثرة والأكاذيب. تمضي العربة الفارغة في ادعاءاتها جارفة كل شيء أمامها، لا تتوقف أمام سؤال أو مذبحة وتاريخ لا يفعل إلا تعميق الكسور والانهيارات.. بطبيعتها التكوينيّة، العربة الفارغة، تمضي هكذا، في الاتجاهات جميعها ومن غير اتجاه.. مدعية كل أفق ومستقبل وهي ترفس في قلب الجحيم والظلام.. إنه زبَدُ الكلام الذي لا يقول إلا فقره المدقع.