كنت أعتقد أن قضاء 10 أيام في جزيرة، مثل سجن اختياري، يمكن أن يصيب نفس المرء بالضجر حيناً، وحيناً آخر بالوحدة، منسحباً نحو الكآبة، غير أن الأيام العشرة مضت برحابة في جزيرة صير بني ياس برفقة أرباب القلم، ونحو ما يسطرون، أيام مضت في البحث عن الكتابة، وأسئلتها الذاهبة في عمق النفس البشرية، وكيف يمكن للإبداع أن يشفي من علل النفس، وضغط الحياة، بل قد ينير لك طريقاً مختلفاً، ومائلاً صوب السعادة، كثيرة هي الأشياء التي تفعلها الكتابة في الإنسان نفسه، وفي الآخرين. كانت عزلة من أجل الكتابة، وكتابة في رحابة العزلة، وكانت تلك الجزيرة يليق بها ما صنعت يد الإنسان، يكفي أنك تتوحد بالغروب، وتهمس للبحر وقت ما تشاء، وتستظل بظل شجرة لوز من أصل ملح هذه الأرض، تتبع عصفوراً ملّ من الهجرة السنوية، وقال لأمكث هنا، لقد قصّفت أجنحتي المسافات، ترى غزلاناً فترجعك براءتها إلى الصغر، وإلى رمال كنت تعبرها حافياً، ومراع كانت أغنية الصبا ومرافقة البهم، للنعام حكمته في الجري الذي لا يبارى، وجهل الإنسان بدفن الرأس في الرمل، الزرافة وصفة أنثى الخيلاء، سيدة كل هذه البرّية، والمشي على مهل، المها وعيونها الكحلى، ومحبة أرض جرداء لها، آمنة من الصيد، وناب السبع ونهش الذئب ورمرمة الضبع، الطاؤوس الذي يجب أن لا يرى الشمس إلا في حضرة حشود ووفود، لأنه ساعتها يمكن أن يخرج سر لون ريشه إن اختلط بشعاع الشمس. في الجزيرة تناغم بين الشجر، وأنس العزلة، طيبة الناس الموجودين، والذين يفرحون بالقادمين دائماً، وكأنهم جزء من الأهل، طيور البحر، ومكوث الماء الذي لا يشعرها بالملل، أشجار القرم حين تنبسط على وجه البحر، كسحابة خضراء، غير ناسية عمق الجذر، وقاع الصخر، الحجر يمكن أن يشكل قدسيته في ذلك المكان البعيد، ويمكن أن يسجل التاريخ وأطوار العمر. أماكن لها مد النظر، قريبة من البحر، غير بعيدة عن البر، هي ملاذ للحيوان والطير، ودواب الأرض، وإنسان كان قد سكنها في غابر الدهر، هذا الكنيس وبقاياه، وهناك من وحّد الرب، مستنزلاً مطراً أو منتظراً مسافراً أو مستغيثاً من خطر. في أيامي الأولى كنت مندهشاً كيف كانت الفكرة على هذه الجزيرة، وكيف عنّت على صاحبها، كيف كان يأتي من وقت لوقت يتفقدها، ويتفقد أشجاراً كانوا يسألونه عنها، ماذا يريد بها؟ وصبر، صعد رمالاً، وخاض بحراً، وقال: هنا سكنّوا الوضيحي، وتلك المساحات مثل مطلق فرس اجعلوها للفهد، وهنا ضعوا لوزة يتظلل بها عصفور دورّي، وهناك نخلة ونخلة ونخلة، فهذه خيرها كثير، ورزقها وفير للإنسان والطير، ازرعوا البحر، فله سكانه، حتى غدت تلك الجزيرة مأهولة، بحسه ومتابعته ووصاياه لولده، اليوم.. يمكن للإنسان أن يسكن فيها، ويخلد فيها للراحة، ولمتعة النفس والعين، وغسل الكدر، بعد 10 أيام من المكوث فيها، قدّرت كم علينا أن نترحم على زايد، وندعو له، لخيره الموصول، وحلمه الذي كان بعيداً وكبيراً!