يخيل إليّ أن الإبداع على اختلاف عصوره ورموزه شبيه بالأوعية المستطرقة، التي يرتفع فيها السائل إلى مستوى واحد ومتوازن بين فروع الأوعية· فالمعاصرة ليست في أن يعيش الكاتب عصره بمختلف أبعاده وأسمائه، بل أن يستدرج إلى عصره جميع من سبقوه في الأزمنة والأمكنة، ويدرج إبداعاتهم التي اختارها دون سواها، في أوعيته المتصلة، ليتشكل من خلال ذلك مشهد للتواصل الإبداعي في التاريخ، ومشهد للتفاعل أيضاً· لقد استدرج أبو العلاء المعري إلى ساحته، أشعار أبي الطيب المتنبي، وأنشأ مما اختاره له منها، ما سمّاه ''معجز أحمد'' مشيراً من خلال هذا العنوان وهذا الاختيار، إلى أن ما فات الشاعر في النبوة، حققه في الشعر· وحين استدعى شعراء كثر محدثين ومعاصرين، إلى ساحتهم الإبداعية، شخص المتنبي وشعره، فإنهم من خلال هذا القناع masque تكلموا عنه وعن ذواتهم في آن· ففي كل قصيدة من قصائد القناع صوتان: صوت الأصل وصوت الممثل·· ولعل ما يسمى بـ''الشخص'' Persona في هذا الصنيع الإبداعي ازدواجية الصوت والصورة والأداء· هكذا فعل أدونيس في كتابه المثلث الأجزاء الذي سمّاه ''الكتاب'' عن ''المتنبي'' من خلال افتراض الكشف عن مخطوطة تعود إليه·· والنسج حول ذلك، لما يشبه سيرة شعرية وفكرية وتاريخية مزدوجة، هما: المتنبي وأدونيس· هذا التوظيف الإبداعي المعاصر لرموز من التاريخ، لم يفت شعراء سبقوا بقرون·· إنّ غوته، على سبيل المثال وهو أكبر شاعر ألماني، أسس ديوانه العظيم الذي سمّاه ''الديوان الشرقي الغربي'' على سيرة وأشعار الشاعر العرفاني الفارسي حافظ الشيرازي·· بل لعله لامس أن ينتمي إلى الإسلام من خلال أشعار حافظ وأحلامه ورؤاه· وكان غوته أشبه ما يكون بإناء مفتوح على مياه كثيرة للعبقرية صبت فيه وارتفعت في أوانيه المستطرقة· ها هو يصف فعل شكسبير فيه فيكتب·· أول صفحة قرأتها له جعلتني عبداً له ما حييت·· وعندما أتممت المسرحية الأولى من مسرحياته كنت مثل أعمى مسته يد سحرية فأضاءت، في لحظة عينيه· فعلمت وأحسست أن وجودي قد امتدت جوانبه إلى ما لا نهاية· أي شكسبير، صديقي: لو كنت ما تزال بيننا، ما تمنيت العيش إلا معك·