إنّ أوّل من نظّر لهذه المسألة النقدية وأثارها بالكتابة والتدوين، هو أبو محمد عبداللّه بن قتيبة الدنيوري المتوفَّى سنة 276 للهجرة في مقدمة كتابه “الشعر والشعراء”. وقد جدّد الحديث عنها طه حسين في بعض كتاباته ضمن “حديث الأربعاء” دون التركيز على مقولة ابن قتيبة الأصليّة، وتَمْثُل في أنّ كلّ جديد في زمنه سيغتدي قديماً حين يمضي عليه عهد معيّن، وذلك حين يقول في مقدمة كتابه: “رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدُّم قائله، ويضعه في مُتَخَيَّرِهِ، ويَُرْذِل الشعرَ الرصين، ولا عيبَ له إلاّ أنه قيلَ في زمانه، أو أنه رأى قائلَه. ولم يقصر اللّه العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصّ به قوماً دون قوم؛ بل جعل ذلك مشترَكا مقسوماً بين عباده في كلّ دهر، وجعل كلّ قديم حديثاً في عصره (...)؛ فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يُعَدّون محدَثين”. فالأولى، أنّ ابن قتيبة يعترض على من يجعل الشعر القديم جيّداً وجميلاً لمجرّد أنّه قديم، ولو أنّه سخيف ضعيف من الوجهة الفنّيّة. والثانية، أنّه يرى، وانطلاقاً من الاعتراض على الموقف السابق، أنّ هذا القديم لم يكُ قطّ معياراً للحكم بجماليّة الإبداع الفنّيّ؛ وإذن فلا مناص من تغيير هذه الرؤية غير السليمة، والعَمْد إلى معالجة النّصّ الأدبيّ انطلاقاً مما هو، وبما فيه، وبما يشتمل عليه؛ وليس لأنّ صاحبه من السابقين. والأخرى، ويعني كلّ ذلك أنّ النّصّ الأدبيّ العظيم يتحدّى الزمان، ولا يخضع لقِدَمٍ ولا لجِدّة، فهو نصّ أدبيّ رفيع يأبَى الانتساب إلى عهد معيّن دون سواه، فهو كما كان جميلاً بديعاً في عهده، يحتفظ بهذه الصفة على مرّ العصور وكرّ الدهور. ولكن علينا، في هذه الحال، أن نميّز بين الجديد الذي كثيراً ما يأتي مناقضاً للقديم من حيث اعتبارُ مفهوم الزمان، وبين الحداثيّ الذي يأتي مناقضاً للتقليديّ من حيث اعتبار المفهوم النوعيّ؛ فالعمل الإبداعيّ التقليديّ، نتيجة لهذا التوجّه المفهوميّ، قد يكون جديداً من حيث الزمان، لكنّه لا يكون حداثيّاً، لأنّ الحداثيّ يُفترض فيه مجاوزة الأزمنة وعدم الارتباط بها. وقد سمعت أستاذي أندري ميكائيل، المستشرق الفرنسيّ، يحاضر في جامعة وهران سنة 1976 عن الشاعر لبيد، فتوقّف لدى بيتٍ من معلّقته طويلاً يحلّله، وانتهى به الأمر إلى أن يقول في آخر كلامه: هذا بيت حديث جدّاً، فيعني ذلك، وهو كان يريد بالحديث إلى الحداثيّ، أنّ الزمانيّة هنا نسبيّة جدّاً، فشعر لبيد قطع مسافة زمنيّة تزيد عن أربعة عشر قرناً وكأنّه قيل الآن فقط. فكأنّ مفهوم الزمنيّة يغتدي نسبيّاً جدّاً في تمثّل هذه المسألة اللطيفة.