أتاحت تقنية الاتصالات المذهلة عبر الهاتف الجوال (الموبايل) فرصة نادرة للمتراسلين لم تتحها الوسائل القديمة المتمثلة في الرسائل الخطية التي كانت تستغرق وقتاً طويلاً في الوصول، كما تستغرقه في الرد· فسرعة الكتابة وسهولة تقنيتها وسرعة الرد جعلت من التواصل بين البشر عبر الرسائل (المسج) لحظة خاطفة، حميمة، آنية وتلقائية، ومختزلة· وهذه السرعة منحت المتراسلين حرية برقية للابتكار وإبداع الطرائف والنكت والتعليقات العابرة، أيضا لتجلي الأفكار وتوالدها المتسارع، دون إحساس بالترقب او المراقبة· فمبتكرو المسجات العجيبة في طرافتها ومضامينها المذهلة يبقون مجهولين، لا احد يعرف من ابتكر هذا المسج الساخر، ومن أبدع ذاك المسج الذكي الذي يحول العادي والمألوف من الأفكار والأقوال إلى نص يقترب من الشعر حينا، وحينا من الحكمة، وحينا يتضمن التهكم المرير والسخرية اللاذعة· لو انتبهنا إلى تدوين تراسلنا من خلال الجهاز (الموبايل)، مع الأصدقاء والمعارف والأقرباء عبر سنوات عديدة، على الورق او شاشة الكمبيوتر، لكنا قد سجلنا ذاكرة الزمان والعمر وذكرياته، دون حاجة الى ما يسمى بالمذكرات اليومية مثلا، وربما دون حاجة الى ان يجلس الكتاب والأدباء ويقررون كتابة سيرهم الذاتية، عبر خيانة الذاكرة·· لكن الشائع الى الآن ان المتراسلين يلجأون إلى المحو كي يتيحوا لسعة الموبايل مزيدا من الاستيعاب للرسائل القادمة· دون ان ينتبهوا الى ان رسائلهم على قصرها وانخطافها هي تدوين للحظتهم وافكارهم ومشاعرهم وتقلبات احوالهم· كما انها تدوين للزمن عبر قدرة الموبايل التقنية في تثبيت التاريخ وساعة الإرسال، كما قدرته على حفظ الرسالة وارشفة الرسائل، الواردة والمرسلة، تلقائيا او اختيارا· في تراسلي مع الاصدقاء، شعراء كانوا، أوعابرين تملكني هوس الرد بنص شعري تلقائي، مشاغبة حينا، وعاتبة حينا، ومحتفية في أكثر الأحيان، ينبثق حالا، من لغة المرسِل وفكرته او مضمون رسالته، بغض النظر حتى عن مستوى العلاقة اوحميميتها· والنص في هذه الحالة لا يكون خارج سياق الرسالة وغايتها، بل انه رد في المضمون وعليه· حتى بدا لي أنني وقعت أسيرة الشعر وسحره، دون انتباه إلى أن الآخر قد لا يستطيع مجاراتي- وهذا ما حدث فعلا بالنسبة للكثيرين منهم-، ودونما طلب او توقع لأن يكون الرد نصا شعريا، فيما يشبه المساجلة· وقليلون جدا هم الذين كانوا يردون بنص شعري آني، تلقائي او محفوظ أو منقول· ولم تكن غايتي في الرد بأسلوبي هذا تعديا أو تعاليا· فالمتراسلون معي شعراء وكتاب وباحثون ونقاد قديرون، لهم باع اطول مني في اختصاصاتهم، واصدقاء بيني وبينهم جذر محبة وجسر تقدير ومودة فائضة·ولأنهم كذلك ربما غفروا لي طبعي المشاغب· لذا وبالرجوع إلى طبعي المتأصل في احترام كل كتابة، صدرت مني او من الآخرين، وبحرصي المتأصل أيضا على حفظ كل قصاصة، اتسعت او ضاقت، رغم طبعي الفوضوي، وذاكرتي الغربالية· احتفظت بتراسلي مع البعض، إن لم يكن مع الكل، ولم امسح إلا ما لا اهمية له، كما بدا لي في تلك اللحظة، او بناءً على طلب الجهاز لأفرغ ذاكرته·