ثقافة تتجاهل عالم الطفل، وتتساهل في متطلباته، وتتعامل معه كأداة من أدوات المطبخ، أو مفاتيح الأقفال الصدئة، لا تنشئ جيلاً واعياً، معطاء، بل هي تنمي أخلاق الانطفاء، والانكفاء على الذات، والتحول من فرد منتج إلى عالة ترهق كاهل الأسرة وتفتك بحال المجتمع· ثقافة تلغي من قاموسها الوجدان، والأشجان لا تفرز إلا كائنات مسحوقة، مكبوتة، مسلوبة تكون سهلة طيعة وصيداً بسيطاً لمن يُريد أن يتاجر بالقيم، ويُغامر بالأخلاق، ويُقامر بالفكر، وبلا أسف تنضوي هذه الكائنات التي نسميها ''أبناء'' تحت لواءات ملتوية، متعجرفة متزمتة، مقبوضة الروح والفكر، والوجدان· ثقافة لا تنحاز إلا إلى الفكر المغلق، والباب المصفق، لا تنجب إلا حثالات جاهمة، وفقاعات هائمة وأعشابا شوكية وخازة، همازة، مشّاءة بنميم، بقلب أثيم وفكر سقيم لا رجاء منه، ولا شفاء فيه· ثقافة تتعامل مع الأبناء كأحجار الشطرنج لا تنبت إلا أوهاماً وألغاماً وأسقاماً وهماً وغماً، تدفع المجتمعات حيالها أثماناً باهظة في المقدرات والإمكانات وتقودها إلى مهاوي الردى، وتسوق قوافلها إلى صحراء عجفاء جرداء خرقاء عابسة يابسة تجعل الحياة جحيماً عديماً، وتحول المستقبل إلى سراب وخراب، واحتراب واضطراب· ثقافة لا ترحم قيم الأبناء، ولا تهتم بمشاعرهم الخضراء، ولا تلفت إلى عيونهم المتطلعة إلى بياض الرؤية، ونصوع الرؤى فإنها لا تخلق من الإنسان إلا بؤس المرجع، وسوء الطالع، وعبوس الجبين، وتغضن الوجنتين، وغشاوة في العين· ثقافة تقوم على حرق الأفكار الخضراء لا تؤسس بناء يافعاً ولا تبني صرحاً نافعاً· ونحن في زمن تتفتح فيه الأبواب، وتتلاقح الأزهار، وتتقاسم المجتمعات لقمة العيش، ونبضة الثقافة بحاجة إلى أسر منتجة لأبناء منفتحين منشرحين متصالحين مع أنفسهم متحررين من الغبن والجبن متخلصين من دواعي القمع والردع حتى يكونوا حصناً رادعاً يحمي المجتمع من شرارات الحقد، ونيران النكد، وجمرات السهد ·· نحن بحاجة إلى أسر تحب الحياة وتحب أبناءها وتدربهم على الحوار، بعيداً عن الأسوار، وتعلمهم أنه ليس كل ما يلمع ذهباً، بل إن للعقل دوراً في فهم الحياة بعيداً عن التلقين والتلحين وشعوذة من لعبت في رؤوسهم وسوسة الشياطين·· أبناؤنا، أمانة في أعناقنا وواجب مقدس علينا أن نذهب بهم بعيداً عن الرياح السامة والجراح المتعاظمة، وأن نرخي لهم جناح الرحمة حتى لا يقعوا فريسة من ليس فيه رحمة ولا نعمة الخير، لهم وللمجتمع·· أبناؤنا أكبادنا تمشي على الأرض ودورنا أن نحمي هذه الأكباد من التليف بفعل الأفكار المسكرة والأفعال المخدرة التي لا طائل منها غير الخراب والدمار·· أبناؤنا أحباؤنا وواجبنا أن نضعهم في عيوننا قبل أن تتلقفهم أيد شريرة مرتعشة مرتجفة لا تلقفهم غير الحجر والشرر·· أبناؤنا نحن بحاجة إليهم كحاجتنا إلى الوطن، ورفع الظلم عن الاثنين، والتربية الحسنة وزرع روح الانتماء إلى الأرض الواحدة من شعم حتى السلع·