ستظل الثقافة بحاجة لأناس يرعونها، وبحاجة إلى أشياء تدعمها، لكي تورق وتثمر، لأنها للإنسان والمجتمع، فهي كالرغيف على الحكومات أن تدعمه ليصل إلى كل الأفواه، من دون عناء ومهانة ومد اليد أو التضور جوعاً والمبيت على الطوى، هكذا تفعل الحكومات الغنية مثلما هي دول أوروبا أو فقيرة مثلما هي بنجلاديش مع الثقافة ومع الخبز· ذهبت الإمبراطورية القيصرية في روسيا، وبقي ذلك الأدب الجميل وتلك الموسيقى العظيمة وتلك اللوحات التي شقي عليها ومن أجلها الرسامون، راحت كل تلك البهرجة لتلك الإمبراطورية الكبيرة، ولم يبق من أثرها إلا ما رعته في وقت عزها ورخائها للآداب والفنون والثقافة· باريس اليوم إلى جانب كل المصانع والشركات الضخمة والمنظمات الدولية، ستبقى تفرح بمقهى تاريخي مثل لو فلور ودي ماجو ومقاهي مونبرناس تلك التي حضنت المدارس الفلسفية والفكرية والفنية والأدبية لتصدرها إلى العالم، سيبقى معهد العالم العربي الذي صرفت عليه فرنسا ليكون ملاذاً أخيراً للثقافة العربية والإسلامية في عاصمتها، عاصمة النور، سيبقى متحف اللوفر والهرم الزجاجي ومركز بومبيدو ودار الأوبرا ومسرح الكوميدي فرانسييز ومتاحفها المتنوعة والكثيرة، ستبقى صحيفة لو كنار إنشينيه بتلك الصفحات الساخرة من السياسيين والكتّاب والحياة الاجتماعية وحال فرنسا، والتي جعلت ميتران مرة يتساءل حينما فقدها: أين تلك الصحيفة التي تنتقدني كثيراً؟ فقيل له إنها مهددة بالإغلاق، فقال: إذن نغلق جزءاً من تاريخ فرنسا، فرنسا لو لم تفكر لكان اليوم أهم معلم حضاري تعرف به لدى كافة الشعوب، محولاً إلى خردة حديد، ومكانه فارغاً، ولا يستقبل كما هو الآن 70 مليون زائر كل عام، لو استمعت لرأي التجار والسماسرة فقط، ولم تسمع رأي المفكرين والغيورين والوطنيين الواعين، لكان برج إيفل يخلو من حياة فرنسا، ولا يحتفظ الزائرون الكثيرون بصورهم تحته وفوق سطحه في غرف نومهم· متحف لندن، لو لم تسخر الحكومات البريطانية كل سبلها وطرقها المشروعة وغير المشروعة، ولم تبذل قصارى جهدها لتضيف إليه كل يوم شيئاً جديداً، لكان الآن مثله مثل جدران أي مبنى بريطاني بارد، تسكنه الرطوبة ويلفه الظلام· متحف المتروبوليتان النيويوركي، لو لم يتحرك المال في اقتناء الجميل والنادر والثمين، لكان اليوم مثله مثل مبنى تابع للبلدية·