الحديث عن وضع الإيجارات في مدينة أبوظبي لا يمل، ليس لأنه مسلٍ وطريف وإنما للألم الذي يحمله كلما أطل موضوع يتعلق بهذه المسألة المؤرقة للجميع· قبل أيام حدثني رجل غربي يعمل في قطاع خدمات حقول النفط عن فيلا عادية في أطراف مدينة أبوظبي طلب منه فيها 700 ألف درهم إيجاراً سنوياً· والتقيت شاباً يبحث عن شقة غرفة وصالة بمائة وعشرين ألف درهم، وهذه أرقام لعيون عقارية للإيجار وليس للتملك· ومن صور مشهد المسلسل المؤلم، ملاك بنايات يريدون اللحاق بجنون الإيجارات فيستخدمون مع ساكنيهم الحاليين التهديد والترغيب حتى يرحلوا، من أجل أن يعيدوا تأجيرها بالأسعار الجنونية والخيالية، فمنهم من يقوم بفصل الكهرباء عنهم، بحجة أن ''الفيوز'' ضرب ولا توجد قطع غيار إلا في جزر'' واق واق''، ومنهم من يكتفي بالعبث بالتكييف المركزي للبناية، بل إن العبث وصل إلى المطابخ اعتماداً على عدم قدرة ربة البيت الصبر طويلاً على مشهد الأدوات المنزلية وقد أصابها الشلل فتضغط بدورها على زوجها كي'' يشلون قشارهم'' ويرحلون إلى حيث تجبرهم الظروف الجديدة!· ومن الملاك من يغري الساكنين بالإخلاء مقابل مبالغ مالية مع خدمات توصيل عفشهم إلى المكان الذي يريدون داخل وخارج الدولة· إن ما يجري من جنون يهدد بصورة جدية وخطيرة كل الخطط التي تقوم بها سلطات الإمارة لتعزيز مكانتها كمركز اقتصادي وسياحي وثقافي عالمي، فآثار هذا الارتفاع الرهيب في الإيجارات تمتد إلى كل شيء، وفي المقدمة من ذلك جهود استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وظروف عمل الشركات العالمية الكبرى، وأخيراً وهو الأهم قدرة شرائح واسعة من متوسطي ومحدودي الدخل من العاملين غير المواطنين على الصمود أمام غول الإيجارات، بحيث تتقلص وتتضاءل أمامهم الفرص والخيارات، ولا يجدون إلا أصعب تلك الخيارات وأشدها مرارة وهي إما العودة الجماعية أو إرسال الأسر إلى بلدانهم والانضمام إلى جحافل العزاب، الذين بات الفرد منهم أيضاً يستاجر السرير الواحد وليس الغرفة الواحدة بما لا يقل عن ألف درهم شهرياً، أو الاستفادة من نظام التناوب على السرير الواحد لأكثر من شخص لتوفير ما يمكن توفيره، وكلها إفرازات ضارة للغاية من نتاج أزمة مستعرة، امتدت حتى إلى ضواحي مدينة أبوظبي وما جاورها بصورة غير مسبوقة· إن دائرة الاقتصاد والتخطيط ومجلس أبوظبي للتطوير الاقتصادي وكذلك غرفة تجارة وصناعة أبوظبي مدعوون جميعاً للخروج من دائرة الدراسات والدعوة والتوصيات إلى دائرة التحرك العملي، وبذل مساعٍ ملموسة لوضع حد لهذا الجنون· فالأمر لم يعد مجرد عرض وطلب، فهناك عرض وعرض معقول ولكن مقابله الإيجاري غير معقول بل أضحى الجنون عينه· فمن ذا الذي سيسمح لأفراد لا ينظرون إلى أبعد من مصالحهم الخاصة، بأن يهددوا الجهود التي تبذلها سلطات الإمارة لجعل أبوظبي مركزاً اقتصادياً وسياحياً و ثقافياً عالمياً؟!· نأمل أن نسمع من هذه الجهات تحركاً قريباً للجم الجنون المتفلت للإيجارات، بعد أن وصل الأمر إلى مستويات لم تعد تجدي معها التوصيات والتمنيات الطيبة، وفي المقدمة من ذلك استحداث مؤشر للإيجارات بحسب مواقع العيون العقارية وعمرها والتسهيلات المتوافرة فيها، وتسترشد به الأطراف كافة، مؤشر يضخ مفاعيل ''تهدئة'' تكبح جنون ذوي المصالح الآنية الضيقة·