النص الإبداعي الغني هو نص ذو طبقات، أو صاحب أغوار· إنه نصّ حمّال أوجه (بالتعبير القديم)، وهو نصّ مشعّ، بالوصف الحديث له، فكلما أمعن فيه الناظر النظر، اكتشف زوايا خفيّة له، وسطوحاً لا تسلمها قراءة واحدة، حتى لكأن كل قراءة جديدة ولادة جديدة للنص· ذلك يفترض بطبيعة الأمور، انطواء النص الإبداعي الغني، مهما كان نوعه، على نسبة من الغموض، ترتسم حدودها بين طبقات هذا النص، وتشكل دعوة للقراءات المتعددة له، سواء كان ذلك من خلال الرموز، أو التَوْريات، أو الالتباس·· أو طرح الأسئلة الفكرية والوجودية على ما كان بسيطاً أو مركباً من الأشياء والأفكار والصور· يقول ألبير قصيري، الروائي المصري الفرنكفوني، إن الغرب اليوم لا يحترم سوى الغامض· لكن: ما هو الغامض؟ وهل هذه المسألة مسألة نسبية أم هي في المطلق؟ وهل الغموض بذاته قيمة؟·· إلى ما هنالك من أسئلة تطرحها عبارة ''قصيري''· وعلى اختلاف الأجوبة عن هذه الأسئلة، يبقى النص الغامض هو النص الذي يحمل في ذاته احتمالات متعددة لتلقية وتفسيره· ولعل هذه ''الاحتمالات'' هي التي تشكّل ''طبقات النص'' من جهة، وهي التي تضع أوتاد الحدود الفاصلة بين العلم والفن من جهة ثانية·· ولعلّ في هذه الاحتمالات أو الأوجه، ما يرسم الخطوط الفاصلة بين النثر والشعر أيضاً· إن النص العلمي يمضي من خلال أدواته النثرية، أو لغته مباشرة إلى هدفه، إنه ليس حمّال أوجه واحتمالات، وبالتالي فإن قراءته ليست قراءة مقاربات، أو قراءة اجتهاد وابتكار وتأويل، بل هي قراءة فهم وتفسير· يلوح لي أن الغموض في النص الإبداعي الفني، كائن أو موجود في أساس تكوينه وفي بنيته أيضاً· وفك ''شيفراته'' هو من خلال التعامل معه بما يوازيه من اقتراحات، بل بما يوازيه من تفكيك لعناصره، حتى لكأن الكتابة الإبداعية، وقراءة هذه الكتابة قراءة نقدية توليدية، ورشة لاتنتهي من فتح الاحتمالات والإشكالات على مصاريعها·· فما سبق ولاحظه أبو حيان التوحيدي من صعوبة ''القول على القول''، وهي مهمة النقد كما كان يرى إليها، انتقل مع التطور المعرفي من المستوى اللغوي إلى مستويات أخرى بنيوية أنثربولوجية أو تفكيكية مؤسسة على جميع ما سبقها من خبرات ونظريات ومعارف، تعود بالنص إلى أشلائه ودمائه الأولى·· بل إلى غيابه السحيق في اللاوعي·· وبنية هذا اللاوعي هو بنية اللغة نفسها، كما يقول ''لاكان''·