يعْبر المسافر المسافات والأصقاع، الوجوه والذكريات، يتطلع إلى الحقول الشاسعة أو الصحارى الجافة.. والغيوم الركاميّة تتطاير كالدخان، في الحقول والصحارى. من نافذة قطار أو طيارة أو باخرة تمخر المحيطات، المشاهد والصور كالوجوه والذكريات، تتداخل وتتقاطع أحياناً في رأسٍ (شهوتها محو المكان) ونزوعها الغياب. ليس ثمة من وقت طويل مثلما هو في العهود الغاربة يسفح فيه المسافر دموعه على الأحبة والأطلال، سرعة النقل والعصر تخطفه، لكنه لا بد ينزف في الداخل بصمت، وحين تتوارى بلاد عزيزة أو ذكرى، يحس أن ثمة شيئاً، اقتُطع من جسده، من روحه المقذوفة في خضّم رحيل لا ينتهي، رحيل معذَّب، لكنه لا يقر بذلك، فالأكثر عذاباً لديه وفداحة هو ما يدعوه بالاستقرار البليد. حركة المسافر ووعيه بالحياة يختلفان بالضرورة عن الآخرين. وعي المسافر وإحساسه مثل ذلك الإحساس الذي ينتاب الجندي الذاهب إلى المعركة، فيه الكثير من التسامح وانعدام المصلحة كغاية والتخطيط المسبق لحركة العلاقات ووجهتها، سواء العلاقات المكانيّة أو البشريّة. ربما وجهة الجمال والشفافية الشعريّة تأخذ الجانب الأكبر، وذلك الإحساس بالخطر الذي تصغر أمامه أمور يظنها المستقرون غاية في الأهميّة. البحّار في رواية (ميشيما) ثلاثيّة الخصب يبدي مثل هذا الشعور، وحين يودّع الأهل والصحب كأنما يودعهم للمرة الأخيرة. الحجّاج إلى بيوت الله المقدسّة، تنتابهم مثل هذه الأحاسيس أيضاً، ويحاولون التجرّد لجهة النقاء والعبور السريع على هذه الأرض. *** ليس للمسافر أو المتِّرحل، من علاقات قارّة، دوران في الأرض ودوران في الأعماق، تترسب العلاقات الحميمة والعواطف فيها وتبني مضارب حنينها، لكنه يظل نهباً لهذا الدوار الأفقي الذي تتقاذفه أمواجه من غير رحمة لكن بعذوبة وجمال فريد... العذوبة هنا تتوحد مع توأمها الاشتقاقي؛ العذاب .... الجمال المؤلم الحزين... يحاول المسافر في ليل العالم، التوحد بذاته، بما يظن أنه صلب وحقيقي في حياته كي يسند روحه ولا يتكئ إلى حائط الهباء المطلق.. إنه يشبه الحاج أو البحار فعلاً، لكن هذين الأخيرين يستندان إلى مُثل وقناعات ثابتة، وهو في حالته أقرب إلى البحث عن حقيقة غامضة أو معجزة مستحيلة الحدوث إلا بالموت ربما، وهو يدرك هذا ورغم ذلك الادراك الأليم يواصل سيره وهروبه من أشباح غامضة إلى أفق أكثر غموضاً، لكنه أكثر تفتحاً على عوالمه الداخليّة، وما يظن أنه الخير والحق والجمال. هذه المفاهيم التي في غيابها يكمن الشغف بها وتكمن عظمتها الحقيقيّة.. وينفجر من هذا الغياب مناضلون أشاوس تخلّدهم الكتب والتاريخ. ينفجر مترّحلون في ليل الفكر، ومسافرون لا ينظرون إلا إلى الأحذية والطرقات.. جدَل الأحذية والطرقات، جدل معّقد لا يعرفه إلا من قَدَح زناد المسافة، وخبر الترحّل والفراق في وحشة الليالي والناس نيام.