الصورة تكوين خارجي لفعل داخلي، نحن نحتاج إليها.. صورتنا في عيوننا، وصورتنا في عيون الآخر.. الآخر صديق، أو زميل عمل، أو زوجة، أو عابر سبيل.. البعض أفراد أو مجتمعات، يتغير العالم ولا يتغيرون.. تتغير صورهم في عيون الآخر ولا يعترفون إلا بالصورة المثلى التي صنعوها لأنفسهم، لذلك تبقى صورهم الماضية عائقاً في تطورهم أو شوكة غائرة في عيونهم، لا يرون غيرها، ولا يتحولون عنها، بل يبقون متكلسين متكدسين متلبسين بلباس النرجسية المتضخمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فالصورة ليست حكاية خلود بقدر ما هي تعبير عن وجود راهن لا يتعاطى الماضي كما هو، بل يختزله، وأحياناً يمضي عنه بعيداً متحرراً من أغلاله، لكي لا يصبح الماضي تاريخاً اصفرت صفحاته، ولكي لا تبقى الصورة أشبه بالحلم الكاذب.. فإذا اعترف الشخص أن الثابت في الحياة هو المتحول، والمتحول هو الثابت استطاع أن يخرج من عهدة الراوي الذي يروي قصصاً خيالية لا تمت إلى الواقع بصلة.. وإذا أيقنت المجتمعات أن الحضارات كرأس الموجة، قاعها تعلو وتنخفض ولا خلود لحضارة كما أنه لا بقاء ثابتاً لفعل من أفعال العقل.. هذه الفكرة تقودنا إلى القصة التاريخية عن «نرجس» هذا الشخص الذي نظر إلى صورته في البئر فأعجب بها، وتشبث بها وصار متعلقاً بها إلى درجة الهيام ما جعله لا ينفك من التغني بها. بعض الأفراد كما أن بعض المجتمعات تعيش هذا الوهم ثابتة راسخة عليه، وتمضي الحياة ويدوس التاريخ على كثير من المعطيات إلا أنها تظل هكذا إلى أن يأتي الوقت الذي تعلن فيه إفلاسها «الحضارة» وضياعها في خضم التغيرات في المحيط الإنساني.. فالصورة التي تلصق بالشمع الأحمر تصبح قبيحة عندما يعفى عليها الزمن ويصير صاحبها أشبه بالكائن الشائه، وبلا معنى.. نحن نحتاج إلى الصورة لكي نغير من داخلنا ونحتاج إليها لكي نعرف عن أنفسنا ولكي يعرفنا الآخر.. وما الآخر إلا مرآة عاكسة لنا أيضاً، كما أننا حلقة من حلقاته المتواصلة، فإن رفضنا الحركة تركنا في ترسبنا، وسار هو ماضياً نحو جلجلته العظيمة.. نحن نحتاج إلى الصورة كما أننا نحتاج إلى تغييرها وتجديدها وتهذيبها وتشذيبها لحمايتها من الصدأ وإكسابها روح التغيير الموازي للاستمرارية.. نحن أيضاً نحتاج إلى صورتنا الجميلة في عيون الآخر، من دون إمعان في دحض أنها قابلة للتغيير والتطور وتصوير الواقع لا كما هو بل كما تريده الحاجة إلى التغيير.. نحن نحتاج إلى صورتنا في عيون الآخر لنحمله معنا ويحملنا معه قبل أن يقذفنا ويلفظنا ويدعنا في عهدة الأموات. الصورة إذاً هي الأصل في التغيير فإن تغيرت بما يلائم الوقت صار الآخر مكملاً لا مهملاً.. الصورة في الأصل الانتماء إلى فطرة نزاهة الحلم، من عفونة الكوابيس النرجسية.